لم ينتهِ الحديث عن القرار الأميركي المفاجئ في توقيته وطريقة إبلاغه -على الأقل- بالانسحاب من سورية، ولا يبدو أنه سينتهي في وقت قريب، فيما التفصيلات اللاحقة عن الدوافع والتحليلات التي رافقته تضيف إلى الغموض القائم أكثر مما توضح، في وقت تأخذ المسألة سياقاً جديداً من التفسير يحمل في داخله عوامل التناقض الحاد لجهة الأسباب التي تقف خلف القرار الأميركي وحيثياته المتعددة، والتي تدفع إلى الجزم بأنه شكّل منعطفاً محورياً في صيرورة الأحداث، وربما مفصلياً في رصد المتغيرات والمقاربات التي نشأت في أعقابه، والتي تشي بالحاجة إلى جردة لخيارات الأدوات والمرتزقة والمتاجرين بالأوهام أثارتها زوبعة الاصطفافات المعاكسة..!!
فسيل الردود التي بدت متسرعة في التقاط خلفيات القرار لا يزال يرسم طيفاً من التكهنات التي يصعب معها تقديم قراءة هادئة للحدث وتبعاته، بحكم أن الكثير منها قابل للتغيير والتعديل على ضوء ما تقدمه المعطيات من وقائع تتناغم مع التسرع الذي يحكم الردود من جهة، ويشكل القاسم المشترك بين العديد من المقاربات التي قدمها من جهة ثانية، بحيث يزيد من المتاعب المرتبطة بسياق أي قراءة متاحة، خصوصاً أن عاصفة الاعتراضات في الداخل الأميركي وخارجه لا تزال تفرض شروطها القسرية التي تضيف إلى الغموض المحيط مساحات إضافية، وإلى التساؤلات المطروحة الكثير من الأسئلة المؤجلة.
المحسوم.. أن القرار الأميركي تم إعلانه، والأكثر من ذلك أنه تم رسم الإحاطات السياسية الضرورية بحيثياته، وما بقي ليس أكثر من تفاصيل ملحقة رغم ما تنطوي عليها تلك التفاصيل من شياطين تحركها أدوات الضغط الداخلي والخارجي، وترسم مفاعيلها وتداعياتها جملة من الانعكاسات المباشرة، التي توجتها الاستقالة السريعة لوزير الحرب الأميركي وما سبقها وما سيلحق بها، على خلفية الاعتراض المبطن على مجمل سياسات الرئيس ترامب، ما يفتح الباب على الكثير من الاستنتاجات لسلم الأولويات والخطوات القادمة المتعلقة بهذا القرار تحديداً.
اللافت كان الاعتراض البريطاني الفرنسي، الذي بدا أقرب إلى موقف الصدمة على مستوى المبررات والحجج المقدمة، والمسوغات التي أعادت طرح الكثير من الخبايا على الدور المشبوه لكلا الطرفين، وحدود التعويل على الأطماع التي أيقظتها جملة السيناريوهات الافتراضية، حيث المحاولة اليائسة لملء فراغ الأميركي تصطدم بواقع العجز المزمن الذي يعاني منه كلاهما حين يغيب الأميركي، واستحالة التفكير في التعويض عسكرياً وسياسياً، بينما المرتزقة التي كانت تراهن على الوجود الأميركي ووضعت كل أوراقها في سلته تواجهها المتاعب الناتجة عن رعونة خياراتها، حين ارتضت أن تكون ورقة محروقة بيد الأميركي وقابلة للمبازرة الرخيصة ومعروضة لتكون مجرد فرق حساب في الأطماع الأميركية.
ما ينسحب على المرتزقة يبدو أنه يسري على الأدوات الوظيفية داخل المنطقة وخارجها، والتحركات المشبوهة والتكتيكات المرافقة لها ليست سوى لعب في الوقت بدل من الضائع، سواء لجهة الحسابات المتصلة بالاتكاء على الأميركي لمرحلة ما بعد الانسحاب، أم جاءت في سياق تقديم مقاربة تبدو فرصة النفاذ فيها معدومة، حيث التركي الذي يحاول أن يكون الفرق الإضافي لسياسة المبازرة يحتاج إلى إعادة إنتاج معادلة تتوافق مع المرفقات الملحقة للفراغ الذي يحدثه ذلك الخروج، وما يخلفه من تركة ثقيلة سيجد التركي نفسه في مواجهة مباشرة مع مخلفاتها بحكم ما أضافه إلى أدواته ومرتزقته، والتورمات التي رعاها وغذاها، فالوجود الأميركي على الأرض يختلف جذرياً عن وجوده السياسي أو بالوكالة، ويتناقض مع إحداثيات المواجهات التي كان يفتعلها ويتحكم بإيقاعها.
a.ka667@yahoo.com
بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
التاريخ: الأحد 23-12-2018
الرقم: 16867