منذ أن كنا صغاراً على مقاعد الدراسة، والجملة التي ترن في الآذان: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ولم نكن نظن أن ثمة امتحاناً في هذا الكون غير امتحان الدراسة وانتظار النتائج، براءة الحياة هذه التي استمرت معنا لحدود الصدمات الأولى ووعيها، غادرتنا إلى غير رجعة، وكشفت لنا الدنيا أن كل يوم أمامنا امتحان، وبكل شيء، نعبره بسلاسة وهدوء أم نخفق فيه، لا أدري، رحلة قاسية مرة وليست معبدة بالأزهار ولا هي تنتظر موسم الحصاد، فكل يوم حصاد آني وبعضه مؤجل لحين النضج.
اليوم.. ونحن السوريين نخوض امتحاناً استمر لسبع من السنين العجاف، ويكاد ينهيها ليبدأ السنة الثامنة، قصص وحكايا بل ونتائج آنية وسريعة حصدناها، وبعضها مؤجل لحين من الزمن، ربما تكون المؤجلة من النتائج تنتظرنا لردم الهوة حتى لا يكون الحصاد مراً، وخيبة الأمل قاصمة، كل ساعة نجد أنفسنا أمام معطيات لا أدري لماذا جعلنا الدهر الماحل نحصدها بلا توقف، من البيت إلى المدرسة، إلى القرية، إلى المؤسسات، إلى كل بقعة جغرافية، ثمة حصاد كبير، بعضه يزهو أنه أينع بالعطاء، وكانت عشرة آلاف عام من العطاء إرثاً له، وآخر مرّ حد الفجيعة.. كل ما في العالم السفلي قد طفا على السطح، قيح لا يمكن ضبطه إلا بجراحات مؤلمة طال انتظارها.
سبع وعلى أبواب الثمانية من العجاف، كفيلة أن تجعل الرؤيا جلية واضحة، لقد تبين الخيط الأبيض من الأسود، شبعنا فيها مزاودات من البعض وشبع كثيرون من دمنا ولحمنا، وأثروا حد الفحش الذي لا يطاق، ووطن سما بتضحيات الفقراء من كل ألوان الطيف السوري، وما زال الكثيرون يحومون كالغربان، لا يكفيهم ما كدسوا من فحش الثروات، أليس ما نمر به امتحاناً للقيم؟
أليس امتحاناً أن ترى من يحتكر لقمة عيشك، من يمنع عنك أسطوانة غاز، وابنك روى التراب الذي يحتوي الغاز بدمه؟ أليس امتحاناً أن تجد من يجب أن يكون مثالاً للفعل والعطاء، ليس كذلك؟ أليس امتحاناً أن تركن إلى ثقة أن ثمة من ينصفك كنت موظفاً، أم كنت ما كنت، ولا تجد عنده إلا المصلحة التي تقوم على شعار هذا العراق بستان لنا؟
ويمضي بك السؤال: عن الحكايا التي يروونها عن هذا التاجر وذاك، وقيمه وأخلاقه، عن عدالة هذا المسؤول أو ذاك، عن إنصاف هذا المدير أو ذاك عن التكافل والتضامن، تسأل: أحقاً كانت أم أنها خيال وتهويلات؟ يلح السؤال وتنظر إلى النصف المر من حياتك وتقول كانت حقيقة، وما زالت وستبقى، وما نعبره ليس إلا طفحاً وقد طال مكوثه على السطح، لا بد من نار البوتقة تتقد، تعيد الصهر، تنقي، وتعترف أن التجربة، بل الامتحان قد طال كثيراً، لا صبر أيوب ولا ابتلاء أحد في الدنيا استمر هكذا..
يخرج من الأعماق صوت يقول: نستحق الأفضل، الأنقى، الأجمل، لسنا بلا أخطاء، لكن حذار دخلنا عوالم الخطيئة، دخلنا مرحلة الهاوية التي قد تردم علينا كل لحظة، لماذا لا تتقد النفوس الحية، أين العشرة آلاف من الحضارة التي تضج بها صفحاتنا وكتبنا، ولماذا؟ وتختصر الحكاية بما تقرؤه على الصفحات الزرقاء: الزمن لا يغير أحداً لكنه يكشف المعادن، وتذكر تلك الألمانية التي يروى أنها عندما رأت ألمانيا يتجاوز دوره، صرخت به: لقد خسرنا الحرب نعم، لكننا لم نخسر الأخلاق بعد.. يالهول المعادلة نربح الحرب، وبعضنا يريد أن يخسر كل شيء… نريد أن ننتصر بكل شيء.. وسبع عجاف ليس امتحاناً بل…
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 25-1-2019
الرقم: 16894