الملحق الثقافي .. حاتم حميد محسن:
إذا كنا نعتبر التكنولوجيا ليست أكثر من وسيلة (عملاقة)، فنحن نميل إلى الاعتقاد بأنها يمكن السيطرة عليها من جانب الإنسان. وبالنتيجة، فعندما نعيش في عصر التخمة التكنولوجية، فإن العيب يكمن فقط في أنفسنا. اتهام التكنولوجيا بأنها غير خاضعة للسيطرة هو اتهام متكرر، يقابلهُ الزعم بأننا نسيطر على وسائلنا وأننا يجب أن نحكم السيطرة على التكنولوجيا.
وبالضد من هذا القول المألوف، يأتي موقف مارتن هيدغر. فهو رغم أنه لم يلق آذاناً صاغية في الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن تأثير هيدغر كمنظّر للتكنولوجيا مازال مستمراً في القارة الأوروبية. هو نال مناصرة وإعجاب عدد كبير من الأتباع والمدارس التي أثّرت بشكل حاسم على تطور الفلسفة في ألمانيا وفرنسا، فكانت أفكاره حول طبيعة التكنولوجيا شديدة التأثير.
نحو العدمية
في كتابه الشهير (الوجود والزمن) الذي نُشر عام 1927، طرح هيدغر ادّعاءً جريئاً بأن الفكر الغربي منذ أفلاطون وحتى الآن قد نسي أو تجاهل السؤال الأساسي حول معنى أن يكون الشيء موجوداً (يتجسد أمامنا قبل أي تحليل فلسفي أو علمي). هو سعى لتوضيح أن الحضارة الغربية منذ بروز الفلسفة اليونانية كانت في مسار نحو العدمية، وذلك بارتباطها الوثيق بنسيان ذلك الوجود. فقط عبر إعادة اكتشاف الوجود والعالم الذي ينكشف فيه يمكننا إنقاذ الإنسان الحديث.
يدّعي هيدغر أن التكنولوجيا في الغرب لا تشير فقط إلى مجموعة من الوسائل أو وسائط الإنتاج: إنها تشير إلى ميول ذهنية. الموقف الفكري التكنولوجي الغربي ليس جديداً، إنه يمكن تعقّبه إلى بداية الفلسفة الغربية أيام أفلاطون. لكن هيدغر يرى أن الميتافيزيقا الأفلاطونية أشارت فقط بشكل غير مباشر إلى الرؤية العالمية للتكنولوجيا التي جاءت بكامل نضجها بعد ألفي سنة في أفكار رينيه ديكارت، الملك الروحي لعصر التكنولوجيا الحديثة. ديكارت أعلن «أنا أفكر لذلك أنا موجود».
وفق هذا الافتراض غير القابل للشك، حاول ديكارت بناء نظام فلسفي يعمل كأساس لجميع العلوم (الفيزياء مثلاً). وفق رؤية ديكارت، الإيمان والتقاليد والرؤى يجب أن تنحني امام معيار أكثر قوة للمعرفة وهو «اليقين». الإنسان الفرد المسلح بطريقة لإنجاز اليقين، سيكون قادراً ليقرر لنفسه ما الذي يُعد معرفة، وماذا يوجد حقاً. هيدغر يجادل بأنه مهما كانت خلافات المفكرين اللاحقين (كانط) مع ديكارت، فهي مجرد تعديل لهذه الفكرة المركزية، توسّعها لتتضمن القيم الاخلاقية والجمالية. وفق رؤيتهم، عقل الإنسان أو في بعض الحالات شعور الإنسان «يخلق» أو «ينتج» الاختلاف بين الصحيح والخطأ، الخير والشر، الجميل والقبيح. وهكذا فإن حلم الإنسانوية (1) الذي يعود في جذوره إلى النهضة الإيطالية، أصبح في النهاية شكلاً صلباً وضع الإنسان الفرد في قلب الكون.
أمراض الروح
وإذا كان العديد قد اعتنقوا ودعموا واستمروا بدعم الدور الجديد للإنسانوية كحاكم للكون، فإن هيدغر يحزن كثيراً على ذلك. بالنسبة إليه، المعنى الحقيقي لهذا الدور ومعنى الفلسفة الإنسانوية التي تبشر به، يتجسد في أفكار فريدريك نيتشه. رغم أن الإنسانوية تحلم بتحرير البشرية من الأغلال السياسية والاضطهاد، فإن نيتشه يرى هناك حافزاً آخر يعمل تحت السطح وهو الرغبة بالسلطة. نيتشه رفع عالياً الرغبة بالسلطة، وحزن على أيامها المجيدة، فترة الملاحم الأرستقراطية وحيث التقدم في الفن والشعر اليوناني الرفيع. هو فسّر السمة الديمقراطية للإنسانوية الحديثة كإشارة للأمراض الروحية والانحلال التدريجي والارتخاء في الرغبة بالسلطة. ولكن بينما كل من هيدغر ونيتشه يتفقان على أن الإنسان الحديث مريض، إلا أن هيدغر يرفض تشخيص نيتشه. يرى هيدغر أن الإنسان الحديث لا يعاني من الضعف في الرغبة بالسلطة. هو يعاني من تكثيفها، الرغبة بالسلطة أصبحت المبدأ المهيمن فقط في الأوقات الحديثة. هذا المبدأ يعرض نفسه بقسرية أكبر ليس من خلال ممارسة الأخلاق الملحمية (وهو ما زعم به نيتشه أنه حصل في العصور القديمة)، وإنما في التفكير التكنولوجي العلمي الحديث.
وفق رؤية هيدغر، هذا التفكير حوّل ليس فقط العالم، وإنما البشرية ذاتها، إلى شيء يمكن حكمه. وبالذات، الإنسان أصبح هدفاً للسيبيرنتك. الذهن الإنساني والروح أصبحا أشبه بالماكينة. الإنسان -الماكينة يمكن السيطرة عليه «تشغيله» في أقراص الأدوية والوسائل المزروعة. ميراثنا الجيني يمكن إعادة برمجته، ظروفنا الاجتماعية يُعاد هندستها. نحن الآن «شيء» يجري العبث به. جماعياً، بيئتنا عرضة لتغيير عميق: الأنهار تُغلق بالسدود، المصادر الطبيعية يتم استغلالها بكثافة، أنظمة النقل والمدن تستنزف الكثير من سطح الأرض (الذي تحول من تكوينات من أماكن إلى مكان مطلق، وبهذا أصبحت تُستثمر ببناء هندسي رياضي منفتح على التصميمية العلمية).
طبقاً لهيدغر، نحن نعتبر بيئتنا مجرد «خزين احتياطي» من الطاقة يمكن استغلاله عند الحاجة. فمثلاً، النهر لم يعد كـ «وجود» بذاته، إنه أصبح مصدر إمداد لمصانع الطاقة الهايدروالكترونية.
قريباً من الكارثة
ولكن عندما نحاول ممارسة أقصى سيطرة على أنفسنا وعلى عالمنا (الآن اختُزل إلى منزلة الملكية)، هيدغر يخشى أننا نقترب من الكارثة. منْ يستطيع التنبؤ بما ستكون عليه الثمار النهائية للبحوث البيولوجية؟ نحن قد نحول أنفسنا إلى وحوش وليس إلى بشر أكثر سعادة. كيف نستطيع حقاً تجنب التهديدات الخطيرة على مستوى الكوكب (بما في ذلك انتشار السلالات الخبيثة للمضادات من صنع الإنسان)، التدهور البيئي العالمي (تسرب البترول، تحطيم الغابات، الاحتباس الحراري العالمي، والأكثر رعباً الإبادة النووية الفورية؟) هذه الشرور تبدو لا مفر منها. إن الفلسفة الإنسانوية التي ترحب بالثورة التكنولوجية التي قُصد بها تحريرنا من الجهل والخوف، هي في الحقيقة جعلت العالم أكثر رعباً وأقل تنبؤاً من أي وقت مضى. الإنسانوية هي في الجوهر تحط من الإنسانية وبعمق: إنها تشرّع ميثاقاً لانتحارنا الجماعي.
قلنا أن هيدغر ينسب لنا ذهناً تكنولوجياً. من المفيد الاعتقاد بأن هذا الذهن كحالة سيكولوجية يمكن جعله أفضل ببعض أنواع العلاجات أو زيادة الوعي. غير أن ذهننا التكنولوجي، طبقا لهيدغر غير قابل للعلاج لأنه ليس فقط مجرد حالة سيكولوجية. طبقاً لهيدغر، نحن الآن نفهم «وجود» أو «جوهر» الكون (ومن ثم وجود كل الأشياء التي فيه) كشيء خاضع لرغباتنا ومن ثم، كعرضة للاستغلال التكنولوجي. هذا ببساطة، هو المفهوم السائد للوجود: كل ما موجود يمكن جعله يعمل طبقاً لرغبات الإنسان. حالياً نحن ليس لدينا مفهوم فعال آخر (بما في ذلك البدائل غير الغربية). وهكذا، عبر فهم الوجود بهذه الطريقة، نحن لا نعاني من الوهم السيكولوجي، نحن لسنا على خطأ. الوجود الحقيقي هو كما نتصوره، أنه يكشف عن ذاته لنا كمقدرة كامنة في كل الأشياء لأجل الاستغلال. لا شيء نستطيع عمله حول هذا. طالما هذه هي الكيفية التي يكشف بها الوجود عن نفسه، فإن العلاج النفسي لا يمكنه مساعدتنا. في الحقيقة، كل العلاجات النفسية الحالية (مثل التحليلات التفاعلية، نظرية أنظمة العائلة، التحليلات النفسية) هي أشكال من السبيرنتيك، وبالتالي هي في الصميم ملوثة تكنولوجياً. ونفس الشيء يصح على السياسة. محاولة «الهيمنة» على التكنولوجيا بوسائل سياسية، يعني فقط مضاعفة منطق الهيمنة التكنولوجية، أنه لا يهزمها.
المصير المحتوم
يبدو أن مصيرنا أصبح حتمياً. لكن هيدغر يترك بريقاً من الأمل مصرّاً على أن أحلك ساعاتنا ربما هي أيضاً ساعات الاستعادة، منطوية على ما اسماه بـ «قوة التوفير». تماماً مثلما أعطت الإنسانوية ولادة لعصر الانحطاط الإنساني للتكنولوجيا، كذلك الأخيرة ربما أيضاً تنفي ذاتها، تفتح الطريق لمستقبل مستعاد. هذا لا يعني أننا سوف نحطم التكنولوجيا، فلا توجد هناك رجعة إلى الخلف. مع ذلك، يقترح هيدغر أننا قد نكون قادرين على تطوير علاقات حرة مع التكنولوجيا (بدلاً من علاقة المستعبد والاستعباد).
رغم أنه لم يوضح الخطوات التي يجب علينا اتخاذها لتأسيس هذه العلاقات الجديدة، فإن الشيء الواضح الوحيد هو أنه ليس كلياً في أيدينا. نحن لا نستطيع إجبار الوجود على التغيير. تحولات الوجود هي اختيار له وهي سوف تتحول طبقاً لجدوله الزمني الخاص به (والذي هو غير معروف لنا). غير أننا يمكن أن نعد أنفسنا لهذا التغيير، نحن نستطيع إعداد ما يسميه هيدغر «إزالة العقبات» clearing وهو فضاء مفاهيمي تنشأ فيه فكرة جديدة عن الوجود. نحن نستطيع القيام بهذا عبر العرض والنقد القاسي للمفهوم السائد حالياً عن الوجود كإمكانية للاستغلال مثلما الرغبة في السلطة. وهكذا، فقط من خلال الانسحاب المؤقت المصحوب بتفكير عميق يمكننا الخروج من حالة اللاوضوح الحالية التي نعيشها.
إن تفكير هيدغر عن الخاصية العامة والأصلية لمجتمعنا المتقدم تكنولوجيا هو مكثف وواسع. غير أن بعض النقاد (مثل ستانلي روزن) جادل بأن إعادة بناء هيدغر لتاريخ الفكر الغربي هو غير دقيق. ورغم أن دقته لا يمكن اختبارها هنا، فهناك الكثير من القول حول هذا: قوة النقد الهيدغري للتكنولوجيا – قوته البلاغية، على الأقل، سوف تتضاءل عندما يثبت أنها تتجذر في التفسيرات المتباينة لهذا الفيلسوف أو ذاك. غير أن تصحيح التاريخ الفلسفي الجينولوجي لهيدغر ربما هو أقل أهمية من محاولة هيدغر في بيان أسباب أمراضنا الحالية والتفكير في إزالتها.
قوة المعرفة
من دون شك، هناك الكثير من الحقيقة في ادّعاء هيدغر أن المعرفة قوة وأن المعرفة العلمية هي الشكل الأكثر توتاليتارية من بين أشكال المعرفة/القوة التي استعملتها البشرية. لكن ذلك العلم هو الوليد العنيف للإعجاب المفرط بالإنسانوية التي في جوهرها تعبّر عن رغبة شريرة بالسلطة. العلم يمكن أن يخدم الأساتذة الشريرين ويمكنه أن يستمر بعمل كهذا. ولكن يمكن أن يكون أيضاً قوة للخير مثلما يحصل من تقدم في الطب والاتصالات التي حسّنت حياة الملايين من الناس. نزعة هيدغر في التقليل من أهمية هذا أو تجاهله كلياً يكشف عن لا فرق غريب بين معاناة الماضي والحاضر. مع عدم سماع الصراخ الحاد لكل الناس، هيدغر يهاجم الموقف الأكاديمي، ينظر بتركيز ثاقب وحنين خيالي للماضي المريح. هو يتجاهل وحشية الفترات التاريخية السابقة في محاولة لإقناعنا أن العصر الحالي هو عنيف بامتياز.
وبالإضافة إلى تضخيم وحشية الإنسان الحالي، يبدو أن هيدغر غير واع بعنف وبخل العالم الطبيعي والتحدي الذي جسّده دائماً للجنس الإنساني. الطبيعة لم تعط أبداً خدمتها للبشرية مجاناً، والبشرية عادة كافحت بمشقة وخسرت في صراعها للإبقاء على وجود غير مؤكد. محاولاتنا لقيادة الطبيعة تكنولوجيا ومن ثم على نطاق شامل، هو فقط «الحل» الاخير لمشكلة العصر القديمة في كيفية انتزاع الرزق بالقوة من (طبيعة) غير سخية.
وإذا اعترفنا أن هيدغر يذهب بعيداً في نقده للإنسانوية من حيث رغبتها في السلطة، فلابد للمرء من الجدال بأن الابتكارات التكنولوجية ليست عرضة للإدارة المسؤولة اجتماعياً، باعتبار أن التقدم التكنولوجي موجّه خصيصاً نحو الطلبات العسكرية والسوق. طالما العسكر والسوق لا يرحمان، فإن الابتكارات التكنولوجية أصبحت سمة ثابتة وبارزة لحياتنا الثقافية. وهكذا يبدو أنها تأخذ الحياة ذاتها لكي تطيع منطقاً داخلياً. لو أخذنا التكنولوجيا العسكرية مثالاً: لا يمكن لأي جهد جماعي منع ابتكار وتطوير أسلحة جديدة. جيوش الروبوت والوسائل النووية المصغرة وتطويرها يمكن تأجيله ولكن لا يمكن وقفه.
النقطة الأخيرة هي أننا في الغرب وحيث الإيمان بالتقدم الأخلاقي أصبح رخواً في عدة أماكن، والإيمان الديني أصبح مسألة شخصية، وحيث اختفاء الفن الراقي الموحد، وحيث التشظي الكبير في الثقافة الشعبية للمهيمن الأوحد (أمريكا)، فإن التكنولوجيا تعمل كمرجعية مشتركة وحيدة لنا. إنها لاتزال تعطي للتاريخ معنى الاتجاه. زخمها يحاكي القدر (لا توقّف في الابتكار). وهكذا، يجب ألا نندهش في يوم ما لو بدا انشغالنا بالتكنولوجيا قد استولى على الفضاء المفاهيمي الذي كان مرة شُغل بالأهداف الدينية والثقافية والأخلاقية.
………
الهوامش
(1) الإنسانوية Humanism هي موقف فلسفي وأخلاقي يؤكد على قيمة الكائن الإنسان فرداً أو جماعة، هذا الموقف يفضل التفكير النقدي والدليل التطبيقي والعقلاني لقبول الدوغما والماورائية. معنى مصطلح الإنسانوية كان يتقلب طبقاً للحركات الفكرية المتعاقبة التي اتصفت بذلك المصطلح. وُضع المصطلح لأول مرة من جانب الثيولوجي فردريك نيثامار في بداية القرن التاسع عشر ليشير إلى نظام التعليم المرتكز على دراسة الأدب الكلاسيكي. وبشكل عام، تشير الإنسانوية إلى منظور يؤكد على بعض أفكار حرية الإنسان والتقدم. إنها تنظر إلى الإنسان باعتباره المسؤول الوحيد عن تعزيز وتطوير الفرد، وتؤكد على الاهتمام بالإنسان من حيث علاقته بالعالم. وفي الأوقات الحديثة كانت الحركات الإنسانوية حركات تتطابق مع العلمانية في التركيز على الإنسان ونظرته للعلوم بدلاً من مصادر ماورائية متجاوزة في فهمها للعالم.
التاريخ: الثلاثاء 29-1-2019
رقم العدد : 16896