الملحق الثقافي ..رشا سلوم:
تمر الذكرى وكأن شيئاً لم يكن، كأن الشاعر لم يقدم لنا إبداعه نقياً بهياً شفافاً، نديم محمد شاعر الآلام التي متحها من قلبه وروحه ودمه، مرت منذ أيام معدودة ذكرى رحيله، لم يسارع أحد إلى الكتابة عنه، ولا الاحتفاء به، وغيره من الشعراء والمفكرين كثيرون يمضون بصمت، على عكس ما نراه في الغرب، من احتفاء بالراحلين الذين تركوا إرثاً ثقافياً وفكرياً ينير الدروب. نديم محمد الشاعر المترف إبداعاً، الخارج عن كل مألوف يمزق، العادات والتقاليد والإقطاع، كم هو محزن ألا نقف عند ذكراه، أن نستعيد ما كان منشوراً من سنوات ليس الأمر سهلاً، ولكن لابد من التذكير أن الشاعر ترك فينا آمالاً، وحلق بجناحين من نور، فكم حري بنا أن نقف عند ما قدمه. مدونة وطن السورية كانت قد توقفت مطولاً عند إبداعه، ومما قالته المدونة:
شاعر الألم والكبرياء بلا منازع، مبدع، عفوي وبسيط في شعره، عبقري في صوره، قوميّ الهوى، كتب الشعر طوال حياته، ولم يأخذ حقه إلا بعد مماته.
إنه الشاعر «نديم محمد»؛ ولد في قرية «عين شقاق» قرب «جبلة» عام 1909م، أمضى طفولته في قريته حتى سن العاشرة، حيث كان يصيد العصافير والسمك ويطارد الأفاعي في الجبال والوديان، وكانت لأبيه مضافة لا تخلو يوماً من ضيف، تعلم على يد الشيخ «سليمان الخطيب»، شيخ «الكتّاب» في ذلك الزمان، ثم أُرسل إلى مدرسة «العنازة» في «بانياس» لتعلم قواعد اللغة العربية، وفيها حفظ الحلقتين الأولى والثانية من سلسلة القواعد لـ»الشرتوني» بما فيها من نماذج أدبية، ثم انتقل إلى تجهيز «الغرير» في مدينة «اللاذقية» عام 1921، وعاد إلى قريته في «جبلة» عام 1922، حيث نال الابتدائية عام 1925، ثم غادر إلى مدرسة «اللاليك» في مدينة «بيروت» ونال الشهادة المتوسطة، وفي سنة 1926 سافر إلى مدينة «مونبيلييه» في «فرنسا» على الرغم من معارضة بعض الأقارب، وحصل على الإجازة في الأدب العربي هناك، وانتقل إلى «سويسرا» لدراسة الحقوق في «جينيف»، ولكنه لم يكمل دراسته هذه لأن السلطات السويسرية أبلغته بوجوب مغادرته البلاد لأسباب غير معروفة، فعاد إلى سورية عام 1930م، وعليه فقد أمضى في الغرب الأوروبي أربع سنوات شكلت لديه مكوناً آخر من مكوناته الثقافية، وبهذا تكون شخصيته ثمرة مزاوجة تيارين ثقافيين هما: التراث، والمعاصرة.
كتاب أعماله الكاملة
قصائده عجت وضجت بهمومه وهموم الناس الذين عايشهم وتعرف معاناتهم، لكن بقيت معاناته هي الأكبر، لأنه عاش وحيداً ومات وحيداً، لم يكن أنيسه إلا الشعر والخمر والفكر، هو واحد من أدباء هذا العصر الذين استطاعوا أن يولدوا الكلمة، فلديه كلمات مولَّدات ولديه أيضاً صيغ في اللغة العربية لم تكن معروفة قبله، وبالتالي له فضل أيضاً حتى علينا نحن الذين تربينا في هذا العصر على الشعر العربي الأصيل، فقدم مجموعة كبيرة من الألفاظ البديعة».
ويتابع: «ظُلم من قريته وأهله ونأى عنهما إلى مكان آخر، أشبهته بالموجة التي لم تعرف الاستقرار ولا القرار، كان مخلوقاً لزمن غير هذا الزمن وكانت لديه نظرة تشاؤمية كبيرة، وفي نفس الوقت كان مؤمناً، ولكن وفق نظرة محددة خاصة به، كان مجموعة من التناقضات، فهو قلق ومشاكس وفي نفس الوقت كان أليفاً وصافياً صفاء الطبيعة، حتى إنه جمع الأضداد مع بعضها بعضاً في تآلف وتوافق، هو هجّاءٌ عظيم، سبّب له هجاؤه الكثير من العذابات والعداوات، فكاد أن يُسجن أكثر من مرّة، وحُرم الكثير من حقوقه الأدبية، لكن استقام أمره في العشر الأخير من حياته وكتب ما كتب، فقررت وزارة الإعلام أن تثيبه، فطبعت له خمسة دواوين؛ وهي الآن تزين مكتبات الشعر والشعراء، توفاه الله في السابع عشر من شهر كانون الثاني عام 1994، عن عمر ناهز السادسة والثمانين، وفي حشرجة الاحتضار قال:
سيذكرني غداً أهلي كثيراً…
ويسأل بعضهم عنّي طويلا
فلن يجدوا ـوإن راحوا وجاؤواـ…
ولن يهدوا إلى عندي سبيلا.
أما أنا فقد كتبت له قصيدة أرثيه فيها بعنوان «هو النديم»، وأقول فيها:
سكبٌ من الشعر، في تلوينه: شُعَل…
ومذهـبٌ في الهوى، آيـاتـه: قُبلُ
وسَكرةٌ من ضلوع الخمر مُهصرةٌ…
يُصاغ من هذه الأُضمومة: الرجلُ
هو النّديم… وهبّت ألف ســـاحرة…
تبني له العرش مبهاجاً.. وتنشغلُ».
ويقول فيه عميد الأدب العربي «طه حسين»: «الشاعر «نديم محمد»، لو لم يكتب إلا ديوانه «آلام» الذي أرسله لي وقرئ على سمعي فأطربني ما سمعت، لو لم يكتب الشاعر إلا هذا الديوان، فحريٌّ بالشعر العربي أن يضمه إلى فحولة الكبار، فهو في آلامه، بلغ العلو الشاهق، ولم ينخفض إلى السفح، وهذا يكفي الشاعر ليكون شاعراً».
يذكر أن الشاعر «نديم محمد» شغل عدة مناصب في حياته، ففي عام 1933، عُيّن بوظيفة كاتب، واستقال، ومن ثم عيّن أميناً لسر المحافظ «إحسان الجابري»، فمراقباً في مؤسسة الميرة، ومديراً لناحية «حزّور»، ثم مديراً لناحية «الشيخ بدر» عام 1948، كما عيّن رئيساً للمركز الثقافي في «الحفّة»، ثم خبيراً ثقافياً في وزارة الإعلام.
صدرت للشاعر عن وزارة الإعلام في «سورية» خمسة مجلدات، هي:
– المجلد الأول عام 1996، ويضم الدواوين: «من خيال الماضي»، «براعم وربيع»، «ورود وخريف».
– المجلد الثاني والثالث عام 1997، ويضمان: «آلام»، «فراشات وعناكب»، «قصائد للوطن»، «ألوان»، «غربة الحس»، «هالة»، «حول الشعر الجديد».
– المجلد الرابع والخامس، 1998، ويضمان الدواوين: «رفاق يمضون»، «من حصاد الحرب»، «من وحي الوحدة»، «فرعون»، «صمت الرعود»، «زهور وشتاء»، «أشواك ناعمة»، «شاعر وصومعة»، «صرخة ثائر»، «وصف أحوال».
ومن أعماله غير المنشورة: «شلحاويات»، «إخوانيات»، «استظهار الماضي»، «أعشاب مروج»، «تيمور»، «حول الشعر الجديد»، «رفاق الماضي»، «شذرات قصائد ضائعة».
ومن الجدير بالذكر أن الرئيس الخالد «حافظ الأسد» منح الشاعر «نديم محمد» وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى بعد وفاته، تقديراً لعطائه الشعري، ولتأثيره في الحياة الأدبية السورية.
التاريخ: الثلاثاء 29-1-2019
رقم العدد : 16896