اعتمد المشروع الصهيوني منذ قيامه على العلم والعلماء والنخب الفكرية والثقافية والنفوذ اليهودي في العالم بهدف تحقيق الحلم الصهيوني بإقامة ما سمي الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فتساوق النشاط المتعلق بتهجير اليهود إليها وإقامة المستعمرات الزراعية والاستيطان فيها جنباً إلى جنب مع إقامة المؤسسات العلمية والمدارس الدينية والجامعات المتخصصة، وجريا على هذه الاستراتيجية المحكمة والمدروسة وفي ظل الانتداب البريطاني على فلسطين، بعد الحرب العالمية الأولى جرى وضع حجر الأساس لأهم صرحين علميين يهوديين فيها هما معهد التخنيون الذي يعد حالياً من أهم المراكز العلمية والبحثية في إسرائيل حيث تم افتتاحه بعد الانتداب بحوالي ثماني سنوات، إضافة إلى إحداث الجامعة العبرية في القدس التي جرى افتتاحها في الأول من نيسان عام ١٩٢٥ بحضور كل من حاييم وايزمان وهربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني وآرثر جيمس بلفور صاحب الوعد المشؤوم والحاخام إبراهام كوك وأول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون الذي أعلن في حفل افتتاح الجامعة قائلاً: الآن فقط يمكننا القول إن دولة إسرائيل قد أنشئت بالفعل، وبعد ذلك وبتشجيع من سلطات الاحتلال البريطاني تم إحداث وإقامة عشرات المدارس والمعاهد في كل المستوطنات والتجمعات اليهودية واعتمدت اللغة العبرية أساساً للتعليم فيها على الرغم من رغبة العديد من العلماء والأساتذة باعتماد اللغة الألمانية أو الإنكليزية لغة التعليم العالي فيها ولكن الإصرار من قادة الحركة الصهيونية على إعادة إحياء اللغة العبرية هو الذي حسم ذلك الخيار فترافق توطين اللغة مع توطين السكان المهجرين القادمين من كل الأصقاع بهدف القيام بعملية صهر ثقافي ومعرفي واجتماعي عبر منظومة التعليم بمستوياتها المختلفة.
إن ما تمت الإشارة إليه هدفه تبيان أن (إسرائيل العلم والمعرفة) قد سبقت إقامة (إسرائيل الكيان السياسي) وهذا لا يلغي حقيقة أن ذلك الكيان قد استزرع وأقيم برعاية ودعم ورغبة من قوى كبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا ولاحقاً الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حسابات استراتيجية ونوازع استعمارية تنطلق من حقيقة أن منطقة الشرق الأوسط تمثل قلب ورئة العالمين القديم والجديد وفق رأي فلاسفة الغرب ومؤرخيه وجنرالاته وعلى رأسهم هيغل وارنولد توينبي واللينبي فجاءت الفكرة الصهيونية لتكون الذراع والذريعة في تحقيق ذلك إضافة إلى أن قادته قد مارسوا كل أشكال العنف والإرهاب والترهيب بحق الشعب الفلسطيني بهدف اقتلاعه من أرضه وطرده منها وتحويله إلى حالة شتات ونفي وضياع وتيه.
والى جانب اعتماد الكيان الصهيوني على بناء قاعدة علمية متطورة ونظام تعليمي حديث وما لذلك من نتائج واضحة ومهمة على صعيد القوتين العسكرية والاقتصاد فقد ركز أيضاً على إنشاء مراكز البحوث والدراسات بتخصصاتها المختلفة من فكرية وعلمية واقتصادية واجتماعية وأمنية تشير الإحصائيات الصادرة عن مؤسساته المالية إلى أن ما يخصص للبحث العلمي في الموازنة السنوية يزيد على ٢،٧٪ وبهذا تحتل إسرائيل المرتبة الرابعة بين دول العالم في هذا المجال، إضافة إلى أن موازنة الجامعات الإسرائيلية وموارها الذاتية تزيد على العشرين مليار دولار أميركي وتقوم كل تلك المؤسسات العلمية والبحثية بدور أساسي ورافعة في رسم وبناء خطط الدولة واستراتيجياتها والمساهمة في تنفيذها، وفي أهمية هذا الدور يقول حاييم وايزمان: إن العلم هو الوسيلة الأساسية للتغلب على ما يواجهنا من مشكلات وما يحيط بنا من مخاطر حيث لا تكفي القوة المادية وحدها في الانتصار، إن هناك سلاح هائل ينبغي استغلاله بفطنة وكفاءة وبكل الوسائل المتوفرة وهو سلاح العلم.
والحال: أننا أمام عدو يعتمد العلم والمعرفة والاستثمار في العقول سياقاً أساسياً في استراتيجياته القصيرة والبعيدة المدى ليحافظ على تفوقه المعرفي والعلمي والتقاني بالمقارنة مع دولها أو ما يسميه بحر من العرب -وفوق ذلك يعمل بكفاءة عالية على توسيع الفجوة والهوة المعرفية والتقانية مع دول المنطقة وشعوبها ولا تقف المسألة عند تلك الحدود فهو عمل وما زال على منع قيام أي مشروع علمي تطويري لأي دولة من دولها إضافة إلى اغتيال العلماء والمفكرين، وهنا نتذكر ما جرى للعديد من العلماء المصريين والفلسطينيين والعراقيين والسوريين والإيرانيين والباكستانيين (بوصفهم عرباً أو مسلمين) كذلك كيف قامت طائراته بتدمير المفاعل النووي العراقي – تموز ايراك -عام ١٩٨١ وكذلك تدمير موقع الكبر في سورية قبل أكثر من أحد عشر عاماً، وكذلك كيف استهدف المواقع العسكرية البحثية السورية مباشرة أو عبر أدواته الإرهابية في جمرايا وحماة والساحل وغيرها من مواقع بحثية أو علمية ولعل تركيزه وخشيته من البرنامج النووي الإيراني يصب في ذات السياق وتلك الاستراتيجية الخبيثة.
إن العلم والمعرفة وتحرير العقول هي قاموس العصر وعنوانه ووثيقة الانتساب إليه معرفياً لا زمنياً ما يبرز التحدي الأساسي أمام شعوبنا وقادتنا ومؤسساتنا بأن تضع ذلك على رأس جدول أعمالها واستراتيجياتها وخططها لنتمكن من جسر ذلك الفارق والبون الذي يفصلنا عن الكثير من شعوب العالم ودوله علماً أننا نمتلك من الطاقات المادية والبشرية والثروات الحقيقة التي تمكننا من القيام بذلك بل والأكثر منه عندما تتوفر الإرادة الصادقة والقيادة الكفوءة النظيفة والنظام التعليمي المتطور الذي هو رافعة كل نهضة حقيقة فارقة في التاريخ.
khalaf.almuftah@gmail.com
د.خلف علي المفتاح
التاريخ: الأثنين 18-2-2019
رقم العدد : 16912