كثيراً مايتمُّ الحديثُ، وتبادلُ الرَّأي، عمَّا يجري في الوسط الثقافي السوريِّ، وما يتم ضخُّهُ عبر وسائل الإعلام ودور النشر ووسائل التواصل المختلفة، من استقرائياتٍ، ودراساتٍ، وتوصيفاتٍ، وتشخيصاتٍ، تحلِّلُ، وتفنِّدُ، وتتناولُ، ظاهرةً هنا، وأخرى هناك، من قبل منتقدينَ ناقمين، أو محبِّين حريصينَ، من داخلِ الوسط، ومن خارجه، ومن داخل المؤسَّسات الثَّقافيَّة الرسميَّة وغير الرَّسميَّة، وخارجها، ممَّن عملوا ويعملون بها، أو ممن يهمُّهُم الشَّأن الثقافي العام، في الجلسات الخاصَّة، أو في المحافل الرسمية والعامَّة، في هذا النشاط، أو على هامش ذاك المهرجان، أو عقب تلك الفعاليَّة.
وكثيراً أكثرَ، ما آنَفُ وأُحجِمُ عن مثل تلك الكتابات في وسائل النشر العامَّة، لأسباب جوهرها: كثرة وغلبة الغثِّ والرديء على حساب الثمين والجيِّد، لدرجة أنَّه باتَ موجةً وتياراً جارفَيْن مُعْتَمَدَين «وللأسف» من قبل الجهات الرسمية كبرامج ثقافيَّة من صميم عمل هذه المؤسَّسة أو تلك، ولدرجة باتا ضمنَ المشهد العام، على أنَّهما من ضمن الخطاب الرَّسميِّ الثَّقافي، والأكثر حرجاً هو أنَّ القائمين على هذه المفاصل الرَّسمية أحدُ اثنين: إمَّا «موظَّف» في المؤسسة الثقافية، وغلبة العدد وبالتالي العقلية، لهؤلاء، أو «مثقَّفٌ» في العمل الثقافي، وهذا قليلٌ بعدده، كثيرٌ بنفسه وهمَّته، لكنه ضائعُ الجهد، مُحَارَبٌ، وإن امتلك الجهد والقدرة والكفاءة، فلا يتاحُ له الوقت، أو يُهَيَّأ له الموقعُ، ليشكِّلَ حالة جمعيَّة تنهضُ بالشَّأن الثقافي والواقع المتردِّي الرَّاهن. وأمَّا أنني أحجمُ، فلأنَّني موسومة بسمتين أعتزُّ بهما، الأولى: كوني من الوسط الثَّقافي، والثانية أنَّني أعمل منذ عقد في المؤسسة الرَّسميَّة الثقافية العليا في البلد وهي وزارة الثقافة التي أقدِّسُ وأحترمُ وأحِبُّ، وخطاب أمثالي ورسالتهم، واضحةٌ ومعروفةٌ في يقين وضمير من يتعاقبون ويتداولون المفاصل الثقافية والمهمات العليا فيها، فيصبحُ الحديثُ والنَّشرُ عن هذا الواقع أمراً غيرَ ذي بالٍ، ومعدوم الجدوى، وبالتالي، ومع هذين السَّببين، لم أرغب، بل وأحجمتُ أكثر من مرَّة عن الخوض في غمار مايحصل في المشهد الثقافي السُّوري والعربي عامَّة والذي نحن جزء من مشهده العام: موسومون متشابه، كما نحن موسومون بخيرة المفكرين والأدباء والمثقفين، الذين لم يتركوا بصمتهم في تاريخ بلدانهم فحسب، بل في تاريخ وضمير الإنسانية جمعاء وعلى مرِّ الزَّمان.
كثيراً ماتعودُ بي الذاكرة، حينما قال ذلك «المهندس الشَّابُّ»: «لقد تحوَّل تغوُّلُ الكثيرين وتراكمُ أخطائهم، مع انعدام المسؤولية أمام ضعفِ المحاسبة، إلى ظهور هؤلاء كثآليل في جسد المجتمع السُّوري، ثآليلُ، صحيحٌ أنَّها لا تؤلم لكنها ورم، وأما منظرها فقبيح…».
بلى، أتذكَّر هذا القول، وكم كان من الشفافية بمكان، والدقة في التوصيف والتشخيص، لدرجة أنَّني لا أملك مفراً لذاكرتي منه، كلما قَدُمَ العهدُ ومَرَّ الزمان..
صحَّة الجسد في صحة العقل، والثقافة غذاء العقل، ومدادهُ، وعماده، وليست حكراً على أحد، لكنها هي تختار من تفيء لأرواحهم، وتلوذ بعقولهم، من الأفذاذ المخلصين الناهضين والمثابرين، ذوي الهمة من الأبناء، الذين نذروا أنفسهم لخدمتها، وهي لعمري بكل مناحي المنطق أرقى وأسمى حاجات النفس البشرية، وأسُّ الحضارات الخالدة على مرِّ الزمان..
وعليه، فالمشهد الثقافي السُّوريُّ، يجبُ أن يُعادَ النَّظر فيه على مستويين:
الأول: الخطاب العام والذي يجب أن يكون جامعاً يستقطب ويجتذب ويحتضن الإبداع ورموزه وقاماته في مختلف مناحي الحياة الثقافية العامة، ويصون المثقف ويجسدهذا السلوك فكراً وعملاً.
الثاني: تجديد الذهنيَّة وبالتالي العمل، وتغيير النبرة والخطاب الثقافيين الرسميين، ومن داخل المؤسسة الثقافية، منهجاً وحواملَ لهذا النهج.
وعندما يحدث هذا، تغدو المؤسسة الثقافية الرسمية رائدة العمل والفكر الثقافي، وبالتالي تنضوي تحت لوائها كل الظواهر الأدبية والثقافية، المميزة والرائدة منها، أو الشَّاذة والطارئة على المشهد، إذ تكاد الأخيرة، وفي ظل تراجع الدور الثقافي الرسمي، أن تطغى عليه وتبزُّه أثراً وفعلاً حقاً…
لا حياة لأي بلد، ولا وجود لأية حضارة، ولانهضة لها من كبوتها دون مفكِّريها ومثقَّفيها، الذين
(هامش لابدَّ منه: كلمة «مثقف»،وكل من قصدته بهذه الصفة، إنما أعني بها المثقف الذي تجسَّد الثقافة الوطنية والأخلاقية والفكرية الإنسانية الحقة منهجاً وسلوكاً وعملاً).
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 22-2-2019
الرقم: 16916