يتعطَّر بحبِّ سوريَّته ويُعطرِّها ببطولته.. يفتديها بروحه ويواجه عدوّها برصاصه وحرفه.. الرصاصُ الذي يحرق الخونة والمعتدين، والحرف الذي يُسقطهم، بقلمِ الحقِّ المرفوع بهاماتِ رجالهِ المقاتلين.
إنه المقاتل السوري، الذي قرَّر وبعد أن فاضت ذاكرته بحكايا الحربِ وويلاتها، أن يكفكف ما فيها من مفردات الوجع، وبتدوين يومياتها.. المقاتلُ الذي ومثلما أبدعَ في إطلاقِ نيران الموت على أعداء وطنه، أبدعَ في إطلاقِ مفرداتِ الحياة التي تردُّ إلى هذا الوطن، حضارته وأخلاقه وقيمه..
إنه «أحمد حبيب خضور» المقاتلُ-الكاتب الذي قرَّرنا وبعد قراءةِ ما في ذاكرته من تداعيات، الاحتفاءُ بهِ بطريقةِ احتفائهِ برأسِ السنة التي أضاءها بنورٍ سطعَ فكانتْ الكلمات: «مع قدومِ العام الجديد، تكادُ البهجة السليبة أن تلدُ نفسها.. لم يتغيَّر علينا أي شيء، سوى أن عاماً آخر قد مضى.. مضى بلا جدوى، كانقضاءِ حلمٍ منسيٍّ، أو كحبٍّ عابر..
ملَّتنا أمانينا، وهربت منّا أحجيات الغد، وتجمَّدت الدهشة على شفاهِ طفلة نسيت أن تكبر..
كيفما شئتَ تعال، أيّها العام الجديد.. تعالَ بارداً، دافئاً، قاسياً، يابساً.. لكنْ، أعطِنا خبزاً، وخذ منّا ما تريد».
لماذا نحتفي بك، وما الذي نتمناه منك؟!. سؤالٌ يجعل كلّ منا يستدعي أمسه، مخاطباً نفسه: سهلٌ جداً أن تستذكرَ ماضيكَ، فهو واضحٌ وضوح الشمس لأنك عِشتهُ وخَبِرتهُ، فرحاً كان أم حزناً.. رقراقاً أم آسناً.. لا يهم، المهم أنكَ قد رأيتَ كلّ ما يمكن رؤيته، واجباً كان أو حقاً، أو حتى تجاوزاً…
ربما عمرُ الفرح قصيرٌ جداً، لكنه كالفينيق، يبعثُ من الرماد ويحيا، حتى وإن كانَ الوقتُ قتالاً وموتاً»..
هذا مابدأنا بقراءته في يوميات «خضور».. المقاتل الذي وإن آلمتنا أوجاع حرفه، إلا أنها لم تمنعنا من الاسترسال بتلمّس مقدار نزفه، ومُذ استدعائهِ للحظات التي تتمُّ بها مواجهة المعتدي وقتاله، وصولاً إلى ما ينتهي بالإصابة أو الارتقاء الذي قاله: «حينما يرتقي شهيدٌ في أرض المعركة، ومهما كانتْ غزارة النيران والرصاص، تكون عيون الجميع موجَّهة نحو ذاك الجثمان الطاهر، ويكون علينا سحبه مهما كلَّف الأمر..
هذا ماكنا نشعره واجبنا، وهذا ما كان يؤدي لإصابة أو استشهادِ، كُثر ممن كانوا يحاولون سحب الجثمان إلى حيثُ رفاق القتال..
عند مصارعة الموتِ في سبيل إحقاق الحق، نَمْثُلُ بين يدي خالقنا، مثلما أمام خافقِ وطننا. يا تُرى، هل لهذا السبب قالوا: حب الوطن من الإيمان»؟!.
يتوقفْ «خضور» فنتوقف معه، يعاود التقليب في يومياته، فنعاود قراءته.. كأنه قلقٌ، بل هو قلقٌ، فالحربُ خدعة، وعلى المقاتلِ الحقّ أن يقاوم النوم ولايدعهُ يغلبه مهما جذبه.. عليه أن يواجهه، ولو بغفوةٍ لا تمنعها الضوضاء التي حوله من أن تمنحه ما قال عنه: «من قال إن النوم يحتاج لهدوءٍ؟!!. حيثما اعتادَ المقاتل أن ينام سينام، وبعمقٍ أيضاً، وربما سيرى في نومه فراشة غنِجةً ترفرفُ حول وجهه، بينما في الحقيقة هي طائرةٌ حربية ترمي صواريخ فتاكة بالقربِ منه..
في الحرب فقط، تتشابه الحالاتُ الشَّاذة والطبيعية.. في الحرب فقط، يحلو النوم كي تمرّ كوابيس الواقع بسرعة»..
هكذا ينام المقاتل، وهكذا تتحوَّل إغفاءته الومضة إلى زمنٍ يقظٍ و ليسَ غافلا.. هكذا ينام على مدى حربٍ يشعرها ورغم نيرانها، لا تمنح شتاء لياليه إلا الصقيع الذي يتوسدُ صحو أفكارٍ، يوقظ أحلامه بها ويخاطبها:
«الناس نيامٌ، إلا من كانوا يحرسون الزمنَ خشية أن يِوحش ويتوحَّش. ما أوحش صحو البرد.. حتى الرصاص بارد، والحرب باردة، وما من خائنٍ سوى كوب شاي مترف بالدفءِ».
إنه ما يستدعي لديه التوق لعشقٍ، ما أحوجه إليه ليحيا في زمنٍ ماتَ فيه كلّ ما حوله.. زمنٌ، يجعله يستحضر وكلّما قبضت أصابعه أكثر على بندقيته، الغيرةُ المشتعلة في رسالة حبيبته: «أغار منها لمّا تقاسمني يدك الحبيبة.. تعلقها بكتفكَ كمعطف الشتاء.. تضمها بأصابعك.. تمسكها من خصرها.. أغار كيف تصحبك في ترحالك.. تلازمك في الشدائد وتحميك بنبضات قلبها، بنارها، بصراخها الذي يمزق أحشاء كل من يرمقك بنظرةٍ غير بريئة.. أغار منها بندقيتك العزيزة.
حتماً، ليست الحبيبة لدى المقاتل، إلا مدينة هي الوطنُ الذي يقيمُ في قلبه، وينتظرُ أن يمرِّر الحياة إليه.. أن يحيطه بالأمان ويقسمُ أن يصونه، حتى وإن كان الثمن موتاً هو رسالة انتمائه لقلبه، والدليل تضحياته أو قوله فيه: «أصدقُ الحبِّ ما كانت رسائلهُ ممهورة بالدماء، وأثبتُ الأقدام في الأرضِ هي قدمُ محاربٍ غرسها في الصخورِ دفاعاً عن الوطن، فتفجرت منها ملايين العيون.
عيبٌ على من شبَّ متنعِّماً في أفيائك، أن يتنكَّر لك أو يهجركَ عند أول غيمةٍ سوداء تحجبُ شمسك.. ها نحنُ ذا، جنود سورية الميامين. سُورها العالي، وسوار حبٍّ دمشقي الرنين».
هفاف ميهوب
التاريخ: الأربعاء 27-2-2019
رقم العدد : 16919
السابق
التالي