عادت رحى التصعيد إلى الدوران مجدداً بعد وقوف متكرر لها على هوامش التحولات والمحطات المفصلية، لتعكس تلك المخاضات العسيرة التي بدأت تضرب المشهد بشدة، المشهد الذي يبدو رغم غموضه المثير للقلق والتوتر، واضحا بعناوينه الكبرى وحوامله الراسخة والمتجذرة عميقا في الواقع التي تجهد منظومة الإرهاب برؤوسها وأذرعها لتغييره والعبث فيه بشتى السبل والوسائل والطرق، لأنها تجد في بقائه على ما هو عليه، وتطوره لمصلحة دمشق وحلفائها خطراً كبيراً على وجودها وبقائها، ليس هذا فحسب، بل إن الواقع المرتسم على الأرض بقواعده ومعادلاته التي غيرت من وجه المشهد الدولي بات يشكل من منظار أطراف الإرهاب خطرا داهما على كل مشاريعهم وطموحاتهم الاستعمارية والاحتلالية.
ضمن هذا السياق يمكننا فهم كل هذا الغليان داخل منظومة الإرهاب التي باتت في أسوأ حالاتها وأصعبها على الإطلاق، وخصوصا أن هزيمتها في سورية تجسدت تحولاً على الأرض سواء بالسلوك أو بالمواقف أو بالقرارات أو بالسياسات والاستراتيجيات التي عبرت بشكل صريح عن هزيمتها وانتصار الدولة السورية وحلفائها، ولعل من أبرز تلك القرارات والسياسات والاستراتيجيات، هو (إستراتجية الانسحاب الأميركي من سورية) التي باتت مثار جدل لجهة الطابع والشكل والمضمون والكيفية والتوقيت.
المخاضات المتعثرة والعسيرة للمشهد تجلت في السلوك التصعيدي والإجرامي لمنظومة الإرهاب في الشمال السوري، التصعيد الذي مهد له القرار الأميركي الجديد بالعدول عن سحب قواته المحتلة من سورية والإبقاء على مئات منهم، فقد شهدت الأيام القليلة الماضية عودة لتصعيد المجموعات الإرهابية ضد المدنيين ونقاط الجيش العربي السوري، في وقت أحبطت فيه وحدات من الجيش العربي السوري محاولة تسلل مجموعة إرهابية من بلدة اللطامنة باتجاه النقاط العسكرية والمناطق الآمنة بريف حماة الشمالي، وأوقعت أفرادها بين قتيل ومصاب، كما أسقطت وحدات من الجيش العربي السوري طائرتين مسيرتين للتنظيمات الإرهابية وأوقعت قتلى في صفوفها خلال عمليات استهدفت مناطق انتشار الإرهابيين ومحاور تسللهم في ريف حماة الشمالي وذلك في إطار ردها على خروقاتهم المتكررة لاتفاق منطقة خفض التصعيد في إدلب، ونفذت وحدة من الجيش رمايات بالأسلحة المناسبة على مواقع ونقاط تحصن إرهابيين من «الحزب التركستاني» في قرية الحويز ردا على خروقاتهم ومحاولات مجموعات منهم الاعتداء على المناطق الآمنة بالريف الشمالي.
وفي الريف الشمالي الغربي لحماة أفشلت وحدات من الجيش محاولة تسلل مجموعات إرهابية من اتجاه قرى قلعة المضيق والشريعة والجماسة باتجاه عدد من النقاط العسكرية التي تحمي المدنيين في القرى والبلدات الآمنة في المنطقة وأوقعت العديد من الإرهابيين المتسللين قتلى ومصابين وأجبرت الباقين على الفرار، كما دمرت وحدات الجيش خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية أوكارا ومنصات إطلاق قذائف صاروخية للإرهابيين المنتشرين في ريف حماة الشمالي وإدلب وهم من جنسيات أجنبية تسللوا عبر الحدود التركية واتخذوا من المدنيين دروعا بشرية، فضلا عن تخزين الأسلحة والذخائر والمواد المتفجرة في منازل الأهالي وإقامة التحصينات الهندسية في أراضيهم الزراعية.
وهذا التصعيد يأتي بعد أكثر من أسبوعين على انعقاد «قمة سوتشي» الثلاثية التي جمعت الرئيسين الروسي والإيراني برئيس النظام التركي، والتي خرجت بالتوافق على ضرورة الالتزام بالتعهدات المبرمة واتخاذ خطوات جادة وملموسة على الأرض للحدّ من انتهاكات المجموعات الإرهابية في (مناطق خفض التصعيد) في الشمال لاسيما في مدينة إدلب ومحيطها، وخصوصا أن تلك المجموعات لا تزال تأخذ أوامرها من النظام التركي على اعتبار أنها تشكل الورقة الأخيرة له للابتزاز والاستثمار في هوامش ومساحات الفراغات التي تخلفه التحولات الكبرى.
مخاضات المشهد تبدو صعبة وعسيرة، إلا أنها تخضع لتوقيت وقرار دمشق بما يوافق اللحظة التي قد تعلنها الدولة السورية في أي وقت لحسم الموقف وترتيب ولادة المرحلة المقبلة بملامح وعناوين تحاكي وتواكب صمود وانتصار هذا الشعب البطل.
فؤاد الوادي
التاريخ: الخميس 28-2-2019
رقم العدد : 16920
