لم يعد الحديث عن آذار مجرداً من الذاكرة التي رسختها تجربة سنوات راكمت معها التحولات النوعية، رغم الإضافات التي شكلت في كثير من الأحيان تعديلات في مسار الحدث وتجاذباته تبعاً للحالة، أو وفقاً لتراتبية حضورها وتأثيرها سواء في الحياة اليومية، أم على المستوى الإستراتيجي، من منظور الحاجة التي اقتضت في ظروف مختلفة محاكاة الواقع والاشتباك معه وإحداث المتغيرات الملحة.
وبحكم أن جزءاً من هذه المتغيرات العاصفة غرباً وشرقاً فرضت إيقاعها، فقد بدت المحاكاة أكثر ضرورةً وأكثر إلحاحاً على خلفية ما فرضته من قيمة مضافة على جوهر المقاربة المتصلة بالعلاقة الظرفية التي نتجت، والهوامش التي بدأت رحلة التقصي في الشواهد المرافقة لعملية تبلور رؤية ناضجة، تستطيع أن تتكيف مع الظرف التاريخي المتغير بدوره.
ولأن النقاش بدا أكثر عمقاً من الحالة الآنية ومقتضياتها، ووصل حد المساءلة أو التساؤل المشروع أحياناً عن مبرراتها والمسوغات السياسية التي تحكم مقارباتها، وخصوصاً أن الترويج لمقولات مفهوم الثورة قد أخذ حيزه على طاولة الجدل ومواصفات الثورة من منظور الاختلاف في الظرف والصيرورة التاريخية، كان لا بد من الحسم في هذه المسألة من زاوية الإدراك بأن المتغير مهما يكن شأنه لا يستطع أن يتجاهل طبيعة الحقب التاريخية، ولا أن يتجاوز مسوغاته الشعبية.
فالمتغير لا يلغي الحاجة، والتطور لا يبدل في المؤشرات النوعية والاستدلال على المفهوم وتبعاته ومندرجاته، وإنما في الحد الأقصى يقدم فرصة للمراجعة التاريخية، وهي ضرورة بطبيعة الحال يحتاجها أي تحرك أو حراك ذو طابع جماهيري، والمراجعة هنا ليست بقصد التغيير في المكونات، بقدر ما هي تحفيز للإمكانيات وفسحة لتجاوز نقاط الضعف أو إغلاق الثغرات التي تنشأ عن الممارسة، والعمل على تقويم التجربة مع مرور السنوات.
بهذا المعيار يكون الحدث الجماهيري قد امتلك المشروعية بشقيها التاريخي والشعبي، ويشكل جزءاً من الصيرورة التاريخية التي لا تتغير ولا تتبدل بمرور الزمن، ربما بعض الأدوات فقط وجزء من المقاربة وليس منها، بعد أن نضجت الخيارات، لأن الظرف يكون حاضراً، حيث لا يمكن معالجة إرهاصات أي حدث قبل ستة وأربعين عاماً بمعطيات اللحظة الراهنة، ولا يجوز مقارنة الناتج الفكري والعقائدي بمنظور الظرف، بل يحتاج إلى مقاربة تشبه اللحظة وتتوافق مع ظرفها.
الأحداث المفصلية في حياة الشعوب تتسم بمنعطفات جوهرية، تبني على أساسها الدول معاييرها للتعاطي الداخلي والخارجي وفق منهجية ترسم إلى حدّ بعيد الملامح العامة، وتضع محددات، تعطي للذاكرة الجمعية والفردية خصوصيتها التي تستمدها من جوهر الحدث وتداعياته، حيث الفارق بين الحدث والظرف أن الأول يتأثر بالثاني، بينما العكس ليس محسوماً، لجهة أن الظرف لا يستطيع أن ينتج الحدث بالمواصفات ذاتها.
وفق هذا المنحى تشكل ثورة آذار اليقين اليومي الذي استولد مجموعة من المفاهيم الإضافية التي كانت تضع معاييرها في سياق الفعل، بحيث يكون الناتج جملة من الظواهر، بصبغة لها شكل من أشكال الديمومة والقدرة على التكيف مع الظرف وإجراء المراجعة التي تحاكي من خلالها الواقع الراهن ومتطلباته، وإحداث التغيير في سياق الحاجة الاجتماعية ببعديها السياسي والشعبي، ونزولاً عند الرغبة في تطوير التجربة.
a.ka667@yahoo.com
الافتتاحية بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
التاريخ: الجمعة 8-3-2019
الرقم: 16927