إذا كان ثمة محنة مرّت على البشرية، فيها من الآلام ما فيها، فهي تلك التي نمر بها كسوريين، الحرب الشعواء التي ألتم فيها لقطاء العالم من كل حدب وصوب وكل ما في القاع والدرك الأسفل من أدران طفت لتشكّل هذا النتن الذي نراه وبمباركة ممن يسمون أنفسهم (العالم الحر) والغريب أن قاطعي الرؤوس بالسيوف هم من المسمى (حر) هذه حقائق لا أحد يماري فيها، حقائق أن كل قذارات العالم كانت تدار لتكون وبالاً علينا، على قيمنا وتاريخنا، السبع التي تكاد تطبق الثامنة تركت كل شيء، ما من أمر يخطر ببالك إلا وربما ستجده، من تدن بالقيم، من متاجرة بكل شيء، من انتهازية واستغلال، ولكنك بالوقت نفسه، ستجد الجوهر الحقيقي، سترى العجب العجاب، شعب يصمد ويقاوم ويقاتل، ويمضي عاشقاً للحياة، للأرض، للوفاء.
لكن الحقيقة أيضاً أن السوريين يستحقون جائزة الجدارة العالمية بالصبر، بالقدرة على التحمل، على بلسمة الجراح مهما كانت، ولكنها لا تمضي دون أن تترك ندوباً عميقة في النفس في المجتمع، بكل شيء، يبتكر السوريون الكثير من وسائل التنفيس عما يحلّ بهم، من ضائقات ومحن كبرى، يجتازونها على أمل الأفضل غداً، لكن هذا الغد يتأخر كثيراً وكثيراً، يعودون إلى ما كان وعلى مبدأ (لو عرفتم المقدر لاخترتم الواقع).
واقع اجتماعي ضاغط بكل المقاييس، يمكنك أن ترصد بالشارع الكثير مما يطفو شئنا أم أبينا، النزق والتوتر والشد العصبي والضغط، وغير ذلك، اليوم بمشوار بسيط كنت أرقب الناس أكداساً أكداساً ينتظرون وسائل النقل، كأنه لا يكفينا ما بنا حتى نحشر لنكون مكدوساً، رأيت ما لا يرى وسمعت ما يقهر، (بربرة وثرثرة) نكلم أنفسنا، رجل في مقتبل العمر يقف منزوياً وهو يردد بيت أبي العلاء المعري ( تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب بازدياد ) فتيان بعمر الورد بحديث صاخب: أنا مكتئب، قلق، يرفع صوته، لايخجل من التعبير عما يشعر به، هي أمور لم تعد خافية على أحد، جميعنا يعيشها، يعرفها، ولكنه يسأل بكل براءة ما العمل ما الحل؟
وربما يكون السؤال الأكثر دقة وقدرة على التعبير: ما الذي يجب فعله للتنفيس من هذا الضغد الهائل، قد يكون الخلاص فردياً، ربما ولكنه ليس حلّاً، ولا يمكن أن يقود إلى برّ الأمان، هنا تربتنا، بيتنا، وطننا، يومنا، غدنا، أهلنا وشهداؤنا، وعدنا، لن نبرح المكان، فمن يمدّ يداً تبلسم الجراح، كيف ننفس الكثير من الاحتقان؟
أما حان أن نرى على ارض الواقع خطوات أكثر رسوخاً مما هو، ليس الأمر قراراً يصدر من حكومة، ولا من مؤسسات، إنما هو فعل جماعي كلنا مسؤولون عنه، لا بدّ من عمل شيء ما، ولا أحد خارج نطاق المسؤولية، كلّ في موقعه، مكانه، عمله، نصر الميدان الذي تجذر لماذا لا نراه في حياتنا واقعاً، فرحاً، أملاً، وعداً، قدرة على اجتراح الحلول، هو الربيع المدمى، المعطر بطهر أبنائنا، فهل من يرتقي ليكون عند عتبات التضحيات، كلنا شركاء بخراب الروح وصدئها إن لم نفعل.
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 8-3-2019
الرقم: 16927