اعتاد محرك البحث (غوغل) أن يضع بين حين وآخر على غلاف صفحته الرئيسية صورة ترمز لحالةٍ أو شخصٍ بمناسبة مرتبطة بتلك الحالة، أو هذا الشخص، وكان الأحدث قيامه بوضع صورة رمزية للفنان التشكيلي السوري الراحل لؤي كيالي بمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين لولادته.
لم تمر لحظات قليلة على هذا الحدث (الغوغلي) حتى بدأ (نواحو ونواحات) مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث، المألوف في مثل تلك الحالات، عن مبدعينا الذين نتجاهلهم ونجهلهم، ويسلط غيرنا الضوء عليهم، ويجب أن نمتلك الشجاعة للاعتراف بحقيقة تجاهل مبدعينا، وحتى الجهل بهم، ولكن يجب أيضاً أن نمتلك القدرة على الإنصاف لنقول إن هذا التجاهل، والجهل، هو من (النواحين والنواحات) الذين يوجهون أصابع الاتهام، لا ممن توجه أصابع الاتهام إليهم، فقبل أن يشير (غوغل) إلى لؤي كيالي بست وستين سنة، وقبل أن يصل لؤي إلى العشرين سنة من عمره (عام 1952) استضافت مدينته حلب معرضه الفردي الأول، وبعد ثلاث سنوات منحته جامعة دمشق الجائزة الثانية لمعرضها الفني، وفي عام 1957 أوفدته الدولة السورية إلى إيطاليا حيث التحق بكلية الفنون الجميلة في روما، وأثبت تميزه كطالب عبر نجاحات في مسابقات الرسم في المدن الإيطالية. كما انضم إلى نادي البندقية لينال عن لوحته (البندقية) إحدى أرفع الجوائز في إيطاليا. هذا التفوق جعله يدافع بشراسة عن أسلوبه ويصطدم مع أستاذه في الكلية ثم لينتقل من قسم الرسم إلى قسم الزخرفة، دون أن يتوقف عن الرسم فشارك في بينالي البندقية في عام 1960 وفي عام 1961 بعد التخرج.
في السنوات الخمس الأولى على عودته من إيطاليا حقق لؤي نجاحات كبيرة في بلده، فكان ذلك الفنان المميز الحضور الذي يشغل المجتمع، ولا تفرغ معارضه من المهتمين، وتباع لوحاتها منذ الساعات الأولى، كما تم تعيينه أستاذاً في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ومع منتصف الستينات اتجه بموضوع لوحاته نحو القضية الفلسطينية، فرسم لوحته الشهيرة (ثم ماذا؟) وأقام في نيسان عام 1967 معرضاً بعنوان (في سبيل القضية) صوّر فيه مأساة الشعب الفلسطيني، وطاف به المدن السورية، متضمناً ثلاثين لوحة نُفذّت بالفحم، وأثناء طواف المعرض وقع عدوان حزيران 1967، فاشتدت أزمته النفسية، وأحرق لوحاته وأرشيفه الصحفي، وتم إرساله للعلاج في لبنان.
في مطالع السبعينيات تعافى لؤي من أزمته النفسية، فاستقر في حلب، وأوجد حياة جديدة، واستعاد فنه، واتجه منذ العام 1973 إلى أسلوب الرسم على نشارة الخشب المضغوطة بألوان شفافة، وبدأ يهتم بالمساحات الواسعة، فكان يظلل اللوحة، ثم يكسوها بالألوان الشفافة، دون الغرق بالتفاصيل ما عدا الشعر والوجه، واهتم بالمشاهد الجميلة، والزهور، والطبيعة، والناس البسطاء، وكان ذلك من علامات أسلوبه المميز الذي أبدع مجموعة من لوحاته المهمة ومنها: (مرممو الشباك) و(ماسح الأحذية) و(حلاق القرية) و(عازف الناي) و(عازف العود) و(بائع اليانصيب) و(معلولا) و(الشقيقتان).
بعد هذه المرحلة البهيجة عاد كيالي ليدخل أزمة نفسية من جديد، ذلك أن مجموعة الأصدقاء المحيطة به انفكت عنه، فهاجر بعضها وانتقل بعضها للعمل في مكان آخر، ففكر بالعودة إلى إيطاليا وعاد فعلاً إليها في عام 1977 على أمل أن يلتقي بأصدقائه القدامى، ويزاول الفن في فضاء يحبه، لكنه اكتشف أن ما تركه هناك لم يبق على حاله، فالوسط الثقافي والتشكيلي تغير، ودخلت التجارة إلى العمل الفني بقوة، فأصيب بخيبة كبيرة، وقرر العودة إلى حلب وكان قد باع منزله وكل ممتلكاته قبل السفر، فاستأجر غرفة بعيدة عن وسط المدينة وراح يتعاطى الحبوب المنومة ليطرد حالة القلق التي كان يعيشها. وفي إحدى الليالي سقطت سيجارته من يده على السرير وهو شبه مخدر، فاحترق هو ومنزله، فنقل على وجه السرعة إلى مشفى تشرين العسكري في دمشق وتوفي بعد ثلاثة أشهر من الحادث مختتماً حياة كثيفة استمرت ما يقارب أربعة وأربعين عاماً قضاها مبدعاً ذا حساسية عالية، ولا تزال سيرة حياته وأعماله تثيران اهتماماً أكبر بكثير من وضع صورته على صفحة محرك بحث لبضعة أيام، فلؤي كيالي يكاد يكون أحد أكثر الفنانين العرب الذين نشرت عنهم كتب ودراسات وأعدت عنهم برامج تلفزيونية وإذاعية، فمع بدايات التلفزيون السوري استضاف الإعلامي والفنان مروان شاهين الراحل لؤي كيالي فور عودته من إيطاليا في أول إطلالة للجمهور على الفنان، وتبع ذلك سلسلة طويلة من البرامج التلفزيونية والإذاعية إحداها سهرة في إذاعة دمشق قبل سنتين من غلاف (غوغل)، وفي عام 1974 أصدرت نقابة الفنون الجميلة كتاباً عنه من تأليف الفنان ممدوح قشلان بالتزامن مع معرضه الفردي الذي أقامته النقابة في صالة الشعب بدمشق. وفي عام 1985 خصه الكاتب ممدوح عدوان بدراسة حملت عنوان (دفاعاً عن الجنون) تقدمت الكتيب الذي حمل العنوان ذاته وضم مجموعة من نصوص عدوان واختيرت للغلاف صورة لوحة للفنان سعد يكن. وفي عام 1999 خصه الفنان سعد الله مقصود بالإصدار الأول من سلسلة الفن للجميع بقلم الناقد صلاح الدين محمد، بالترافق مع معرض (بوسترات) كبيرة لأعماله على اللوحات الإعلانية المضاءة في شوارع مدينة دمشق، وكذلك في صالة أتاسي. وفي عام 2008 أصدرت احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية كتاباً بعنوان (لؤي كيالي.. حداثة فنية.. ومضمون إنساني) بقلم الناقد طارق الشريف، ومراجعة سعد القاسم. وإضافة إلى هذه الكتب هناك عدد كبير من الدراسات عن لؤي كيالي نشرت في الصحافة السورية والعربية بأقلام: د. عفيف البهنسي، د.عبد العزيز علون، د. غازي الخالدي، د. محمود شاهين، طاهر البني، غازي عانا، أنور محمد.. وسواهم، وخص الدكتور صباح قباني بدراسة خاصة لوحة أرواد التي أنجزها الكيالي لصالح المتحف الوطني بدمشق. كما كانت سيرة حياة الكيالي موضوع محاضرة لكاتب هذه السطور استضافها المركز الثقافي الفرنسي بدمشق مطلع عام 2009، وفي مجال آخر أنجز الفنان سعد يكن، الذي رافق لؤي في المرحلة الأخيرة من حياته، لوحة معبرة ومؤثرة عن لؤي، وفي عام 2015 أقامت مديرية الفنون الجميلة معرض الربيع باسم لؤي كيالي وضمّنت دليل المعرض ملخصاً عن سيرة حياته وتجربته، وقبل سنوات قليلة أطلق اتحاد التشكيليين السوريين اسم لؤي كيالي على صالة المعارض في نادي الرواق العربي بدمشق.
كل ما سبق هو بعض ما أضاء تجربة لؤي كيالي، وأبقى اسمه حاضراً في الحياة الثقافية، علَّ ذلك يقنع (النواحين) بالكف عن النواح.. وللحديث تتمة..
www.facebook.com/saad.alkassem
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 12-3-2019
الرقم: 16929