الملحق الثقافي:
لرواية المقامر قصَّة طريفة؛ لا تبدأُ من أنّ الكاتبَ أنجزها خلالَ ستةٍ وعشرينَ يوماً فحسب، ولا تنتهي بأن الكثير من أحداثها هو أحداث شخصيّة عاشها الروائي فيودور دوستويفسكي نفسه ولا سيّما ولع بطلها ألكسي إيفانوفيتش بلعبةِ القمار الشهيرة: «الروليت».
إنّ من يقرأ ما كتبه هنري ترويا عن شغف دوستويفسكي بالروليت تتكشّف له جوانب كثيرة مُعْتِمة من شخصيّة بطل «المقامر»، وهي في نواحٍ كثيرة صورة عن شخصيّة المؤلف نفسه.
كانَ دوستويفسكي قد وقَّعَ صيف 1865 عقداً مع الناشر ستيللوفسكي، يُلزِمُهُ لقاء ثلاثة آلاف روبل أن يمنَحَ الناشرَ المذكور حَقّ إصدار مؤلفاتِهِ في ثلاثة مُجلّدات، وأن يُقدِّمَ – بموجبِ هذا العقد – روايةً جديدةً بحجمِ اثنتي عشرةَ ملزمةً قبل الأوّل من تشرين الثاني 1866؛ وتضمّن العقدُ شرطاً جزائيّاً مفادُهُ أنّ حقوقَ نشر مؤلّفات دوستويفسكي جميعها تنتقِلُ إلى ملكيّة الناشر ستللوفسكي في حال لم يتمكّن الروائي من تقديم الرواية الجديدة خلال الفترة المحدّدة، وقد أَمِلَ ذلك الناشرُ الجشعُ في أن يعجزَ دوستويفسكي عن الوفاءِ بعهدِهِ ولا سيَّما أنّه كان مشغولاً بكتابةِ روايتِهِ الشهيرة «الجريمة والعقاب» لصالح مجلّة «الرسول الروسي».
كان الروائي يُدركُ أنّه سقطَ في الفخّ لكنّه تصرَّفَ بغير اكتراثٍ في الظاهِر، مع أنه لم يكن مطمئنَّ البالِ على الإطلاق، ولا سيّما مع اقترابِ موعدِ تسليم الرواية، وهذا ما تشي بهِ رسالتُهُ إلى خطيبته السابقة آنّا فاسيليفنا كورفني – كروكوفسكايا يوم شَرَحَ لها مأزقَهُ الصعبَ وكيفَ سيحاولُ أن يخرجَ منه:
«أريد القيام بعمل غريب لا سابق له: خلال 4 أشهر، سأكتب 30 ملزمة طباعية لروايتين مختلفتين، وسأكتب الأولى صباحاً والثانية مساء، وأنتهي منهما في الموعد المحدد..».
ويكتبُ بوريس بورسوف في كتابِهِ «شخصيّة دوستويفسكي»، أن أصدقاءَ دوستويفسكي عَرَضوا تقديم المساعدة؛ فاقترحَ عليه الشاعر آ. ن. مايكوف والكاتب آ. ب. ميليوكوف أن يَضَعَ بنفسِهِ مُخططاً أو هيكلاً عاماً لبناء الرواية، ويكتُب فصولَ الروايةِ أشخاصٌ آخرون بحيث يُنجِزُ كلٌّ منهم فصلاً، ثُمّ يعودُ دوستويفسكي فيقرأ العمل ويشتغل عليهِ ليكسبهُ وحدَتَهُ وتماسكَهُ، لكنَّ الروائي يرفضُ هذا الاقتراح. عندها ينصَحُهُ ميليوكوف أن يُملي العَمَلَ إملاءً على كاتبة اختزالٍ ما يوفِّر عليهِ الوقت، وبالفعل ففي الرابع من تشرين الأوّل 1866 تَحْضُرُ إليهِ فتاة تُدعى آنّا غريغوريفنا سنيتكينا، أنهت لتوّها دورةً علميّة في فن الاختزال في مدينة بطرسبورغ.
ويبدأُ العَمَلُ الإبداعيُّ الصعب؛ ويُملي دوستويفسكي سَبْعَ عَشْرَةَ فصلاً على الفتاةِ الماهرة، هي فصولُ الرواية؛ ويُنْجَزُ العملُ بالفعل نهار 29 تشرين الأول، أي خلالَ ستة وعشرين يوماً، وينطلقُ دوستويفسكي باحثاً عن الناشر ستيللوفيسكي، الذي اختفى عن الأنظار تماماً، ولعلّه غادر بطرسبورغ آملاً أن يفشَلَ دوستويفسكي في إنجاز الرواية الموعودة، أو أن يفشَلَ في العثور عليهِ في اللحظاتِ الأخيرة؛ لكن دوستويفسكي يلجأ إلى السلطاتِ الرسميّة في المدينة، فيودِعُ الروايةَ لديها قبَلَ نفادِ المُدّةِ القانونيّة.
إن كتابة رواية بحجم «المُقامِر» خلال ستةٍ وعشرينَ يوماً، وبطريقة الإملاءِ على شخصٍ يكتبُ لك هي مسألة خياليّة؛ وهذا ما يَعْرفُهُ نُقّادُ الروايةِ، ومبدعو هذا الفن الصعب المُعقّد، هذا الأمر يعكسُ عبقريّةً أدبيّة نادرة، حتى لو اتفقنا مع أحد النقّاد «بأنّ دوستويفسكي كانَ يعُدُّ نفسه لكتابةِ روايتِهِ بالتدريج، وشيئاً فشيئاً» وحتّى لو سَلّمنا أنّ فكرة «المقامر» الرئيسة كانت قد خطرت ببالِ الكاتب عام 1863؛ أثناء رحلتِهِ مع باولينا سوسلوفا إلى أوربّا الغربيّة، وهي فتاةٌ كان قد أحبّها، واستلهم منها الشخصيّة الثانية المهمّة في الرواية: باولينا ألكسندروفنا؛ الفتاة الغَريبة القاسية، التي وقع الفتى الروسي ألكسي (مُعلّم أولاد الجنرال) في حُبِّها.
إن «المقامِر» تُبيّنُ أكثَرَ من بعض أعمال الكاتب الأخرى أنّ دوستويفسكي كان كاتباً ذاتيّاً؛ يغتَرِفُ مادة الكتابة الروائيّة من تجربتِهِ النفسيّةِ والروحيّةِ، بل لعلَّ المطَّلِع على وقائِعِ حياة الكاتب يرى أن كل واقعة منها تحوّلت إلى مثيلتِها في إبداعه. «لقد كَرَّسَ حياته كُلّها للأدب، وكل ما فعله في حياتِه، وكل ما فكّر فيهِ – كما يقول بورسوف- كان يُغذّي إبداعَهُ الأدبي. هنا، يكمنُ سِرُّ خصوبة عبقريّته. لم يكن دوستويفسكي يوجّهُ عبقريّته، بقدر ما كانت عبقريّته، كقوّة عليا، فوق شخصيّته، توجّه شخصيّته».
التاريخ: الثلاثاء12-3-2019
رقم العدد : 16929