بالرغم من أن الفنان التشكيلي ناجي عبيد, رحل في14ـ 3ـ 2019عن عمر مديد تجاوز المئة عام، إلا أنه لم يفقد رغبته في الرسم والتشكيل الفني الحديث، المرتبط بمعطيات التراث الزخرفي والحروفي والشعبي والأيقوني، حتى أيامه الأخيرة، فهو من مواليد دير الزور عام 1918, وكان يعرض أعماله في محترفه بسوق المهن اليدوية، وكنت أشاهده، خلال مروري الدائم من هناك، منهمكاً في الرسم والتلوين.
ولقد تميز بلوحاته الشعبية والزخرفية, التي حملت بصمته, وكان يقدم من خلالها ثمرة وخلاصة بحثه التشكيلي والتقني، ليجدد عشقه للفن مع الأجيال الفنية الطالعة، وكانت أعماله تلفت أنظار طلاب وهواة الفنون، بفضل موقع مرسمه، في مكان حميمي بقلب مدينة دمشق, كما ساهم في نشرالقيم التشكيلية التراثية بين الجمهور من مختلف الشرائح والمستويات, ومن ضمنهم الأجانب الذين يقصدون المكان, لأنه معروف بطابعه التراثي والسياحي.
وجوه وزخارف
ولقد آمن ومنذ البداية أن الفن هو العنصر الوحيد، والضمانة الفعلية التي تؤكد استمراريته, وهوالبصمة الحديثة التي تكرس هويته وعشقه للتراث الشعبي المحلي والعربي، الذي أحبه منذ طفولته وفتوته. حيث كان موضوعه المفضل امرأة بعيونها الكحيلة, على خلفية تجريدية زخرفية عفوية، ولوحاته اختصرت في تنويعاتها المختلفة، رؤيته الفنية, التي سجل من خلالها قدرته في الوصول طروحات الحداثة والأصالة في آن واحد، والمساهمة في أبرز حيوية العناصر التراثية والزخرفية وقدرتها على التجدد مع معطيات الفنون الحديثة والمعاصرة.
وأهمية تجربته لا تكمن فقط في أنه قدم خلال مشواره الفني الطويل آلاف اللوحات, وإنما تكمن أيضاً في أنه صاحب بصمة خاصة, علاوة على مجموعة مقتنياته من الأعمال القديمة والنادرة.
وهو فنان شعبي، استمد مواضيع بعض لوحاته من حكايات عبلة وعنترة وأبو زيد الهلالي والزير سالم وابطال القصص الشعبية الاخرى, ويمكن القول ان الرسم الشعبي, تأسس على اساليب وتقنيات سبقت مجيء كبار الفنانين المحدثين في أوروبا بقرون, وتواصلت مع أبو صبحي التيناوي، واستمرت مع ناجي عبيد، وبالتالي فقد كان يقدم في هذا القسم من لوحاته, خلاصة بحوثه التقنية, فمن أبرز سمات الفنان الشعبي الفطري، أنه لايلتفت، لما يجري حوله من تجارب فنية حديثة، ويرسم بدون أية تأثيرات تقنية أو تشكيلية، وعلى الطريقة التي كان يرسم بها الفنان الشعبي الفطري في الماضي.
بين الماضي والحاضر
إلا أن هذه الميزة لاتنطبق على الأسلوب الزخرفي، الذي تميز به, حيث استخدم الايقاعات اللونية العفوية، والإشارات الزخرفية، وكان يتجاوز المساحات اللونية الصافية المتواجدة في الزخرفة التقليدية للوصول إلى الايقاعات اللونية العفوية, وإيجاد حالة من الموازنة والمواءمة بين الايهامين البصري والعاطفي, وهذا يعني انه في صياغاته الفنية يندفع تشكيلياً, من مظاهر صياغة التفاصيل, نحو مظهر تحريك الأداء العقلاني الصارم، ليروي حكاية الرغبات والأحاسيس بلمسات متتابعة, تبحث عن مدى عاطفي وشاعري يعكس هواجس الارتباط بالقيم الجمالية الحديثة, التي استعاد معها جذور ارتباطه بالماضي الحضاري المستمر في كل الأزمنة والأمكنة.
وعلى هذا يدرج الفنان الراحل ناجي عبيد فناناً زخرفياً وحروفياً وشعبياً, ولعبت تجاربه المتواصلة دون انقطاع, دوراً أساسياً في تكوينه الفني وبلورة لغته التشكيلية، الأمر الذي أثرى أعماله بالأفكار الحديثة عبر التأكيد على التكاوين الزخرفية الشرقية. ولقد أقام وشارك بعدد كبير من المعارض الفردية والجماعية وقدم فيها الإيقاعات الجمالية العربية، التي اكتشفها ولمسها من خلال الإطلاع والمتابعة، مؤكداً قدرته على إيجاد إضافات جديدة باستخدام التقنيات الحديثة, والمناخ الذاتي وبلورة المظاهر المميزة لإيقاعات البنى الزخرفية والحروفية. ومازجاً بين بعدين زمنيين للوصول إلى صياغة عمل تشكيلي يعكس رغبات التأصيل والتحديث. حيث أصبح لجمالية الشكل وللتكوين الفني الأهمية الأولى، بغض النظر عن العلاقات القائمة بين الكلمات المكتوبة، لأن الكلمات المقروءة تعيق أحياناً، اللغة التشكيلية عن كشف ذاتها, والتي هي أبعد من الدلالات الأدبية المقروءة. فهو يستعيد تداعيات الزخارف العربية، لا لينتقم من الحداثة الأوروبية، وإنما ليجاهر بأن الأصالة الشرقية، لا تنبع إلا من نسيج الذاكرة التراثية والأفكار التشكيلية الخاصة.
تنويعات تعبيرية
ولقد ركز في لوحات أخرى كثيرة لإبراز الجوانب الجمالية والتشكيلية الخالصة، عبر مواضيع الطبيعة والوجوه والزهور والطيور والرموز المختلفة، التي عالجها بأسلوبية حديثة معبّرة في احيان كثيرة عن جماليات الاختزال والاختصار في الاتجاهين التكويني والتلويني.
وبذلك أبرز حيوية الزخرفة العربية ومرونتها وقدرتها على التجاوب مع التكاوين والعناصر الواقعية والتعبيرية المختلفة، ضمن رؤية فنية غربية وشرقية في آن. فبعض لوحاته تتميز بدقتها وواقعيتها وتقليديتها، وبعضها الآخر وخاصة اللوحات الشعبية ( كلوحات عنترة وعبلة ) لا تتقيد بالنسب التشريحية وبقواعد المنظور، الذي يكاد يلتصق في أحيان كثيرة بسطح اللوحة، حيث كان يجنح فيها نحو الاختزال، واضفاء المزيد من اللمسات اللونية العفوية والفطرية، مؤكداً هواجس استمرارية اللوحة الشعبية بموضوعاتها المستمدة من القصص الشعبية.
وكان يجنح في لوحات اخرى نحو مظهر استعادة تقنيات الرسم الواقعي والاستشراقي، وكل ذلك بدقة أدائية مشحونة بالتفاصيل، وبمواكبة مظهر عودة الواقعية القصوى أو المفرطة. ولهذا فالأجانب يعجبون بالفن الشعبي المحلي, ويحملون معهم, نماذج منه، أما حين يقفون أمام لوحة تشكيلية عربية حديثة, فيقولون هذه بضاعتنا ردت إلينا.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الأربعاء 20-3-2019
رقم العدد : 16936