في اللغة انتصر على خصمه غلبه وظهر عليه، والانتصار يكون انتصاراً بتحقيق هدف، أو انتصار بمنع تحقيقه، وهذا هو حال ما جرى في سورية التي تعرضت لحرب مركبة وعدوان متعدد الأهداف والأطراف شاركت فيه قوى متشعبة ومختلفة المشارب والمرجعيات والأيديولوجيات تصل أحياناً إلى مستوى توافق التناقض كان القاسم المشترك الأعظم بينها هدف إسقاط النظام السياسي في سورية عبر معطى القوة والضغط بأشكاله الاقتصادية والسياسية والإعلامية والحصار وغيره من أشكال حروب الجيل الرابع إن لم نقل حروب ما بعد الحداثة.
إن ما شهدته سورية ليس له شبيه في حروب تقليدية أو غيرها، ومن خلال مستويات وسيناريوهات أعدت بإحكام في غرف ومطابخ أجهزة المخابرات الغربية ومواخير السياسة وكان الغطاء هو الربيع العربي بهدف تظهير ما جرى إعلامياً على أنه إرادة شعبية في مواجهة الاستبداد والتسلط ما يكسبه قاعدة حراك واسعة وإمكانية وشروط تسويق واستثمار إعلامي وسياسي واسع… الطيف في ظل مناخ يعززه خطاب معولم يتضمن بروباغندا -دعاية منظمة- يتحدث عن الحرية وتمكين المرأة ومواجهة الاستبداد وهي عناوين لا شك جذابة تجد صدى طيباً لها في الشارع العربي الذي يعاني في أغلبيته من تلك الآفات إضافة إلى دكتاتوريات فكرية وسياسية واجتماعية ودينية تكاد تسيطر على كل منافذ الحرية سواء كانت حرية التعبير أم حرية المعرفة والتفكير.
إن قراءة ما شهدته المنطقة العربية خلال السنوات الماضية ومنذ عام ٢٠١٠ وحتى الآن يعزز القناعة بأن الأهداف البعيدة لكل ما جرى كان إدخال الدول العربية في فوضى عارمة تأتي على تلك البلدان، ما يفضي بالنتيجة إلى تكريس واقع يقوض فكرة وواقع الدولة الوطنية بل يعيد إنتاج كيانات تقوم على حوامل ما دون وطنية تأتي على العقد الاجتماعي في كل بلد عربي وتعمل فيه تشظية وعبثاً، وتفسح في المجال لصعود قوى متطرفة لتكون الواجهة السياسية لتلك البلدان بحيث يحل الاستبداد الديني بدل الاستبداد السياسي في ظل غياب أحزاب تتشكل على حوامل وطنية حضارية ومجتمع مدني قادر على إنتاج نخب سياسية تؤمن بالحرية والتعددية وقبول الآخر المختلف وتحتكم إلى صناديق الاقتراع في عملية تداول السلطة والنظر إليها كخدمة عامة وليس امتيازاً أو مجالاً لممارسة كل أشكال التسلط والفساد والإلغاء.
إن محاولة تنميط الأنظمة العربية على شاكلة واحدة بهدف تبرير ما جرى تحت عنوان ربيع عربي هو أمر غير صحيح وغير موضوعي فسورية ليست نسخة عن مصر أو ليبيا أو اليمن والحديث هنا يقارب الحالة السياسية والاجتماعية ومعطى ممارسة الحرية وتجلياتها الديمقراطية سواء كان ذلك مؤسسات منتخبة أم أحزاب وقوى سياسية أم على مستويات التنمية ودور الدولة الوظيفي ودرجة الوعي العام وهذا لا يعني عدم وجود نقاط ضعف في البنية العامة وحاجة ماسة لعملية إصلاح في البلاد كانت قد بدأت كمشروع حمله الرئيس بشار الأسد منذ عام ٢٠٠٠ ومنحه شرعية إضافية بسعيه لتوسيع المشترك السياسي وفتح نوافذ ديمقراطية تستوعب القوى السياسية الصاعدة والشابة وانفتاح اقتصادي فيه شيء من اللبرلة التي تمكن من استقطاب رأس مال وطني وأجنبي وإدخال قوى طبقية فاعلة في عملية التنمية الشاملة وصولاً لمجتمع أكثر عدالة ورفاهاً.
وبالعودة للعنوان يمكننا القول ومن واقع ما جرى خلال السنوات الثماني الماضية إن سورية استطاعت تحقيق الانتصار على المشروع الذي استهدفها كنظام سياسي بمواصفات لا تناسب أو تنسجم مع جدول الأعمال الأميركي ومتطلباته في المنطقة وفي مقدمتها الحفاظ على أمن إسرائيل بوصفها قاعدته المتقدمة إضافة للدوران في الفلك الأميركي الأوربي والائتمار بأمرته والاستجابة السريعة لمتطلباته، إضافة إلى السعي لتقسيمها وضرب بنيتها الاجتماعية والفكرة الحضارية التي نشأت وتشكلت عليها كنموذج يقوم على اتحاد مواطنين بهوية جامعة دونما اعتبار لأي عامل انتماء فطري أو غريزي أو أقلوي وتناغم كل ذلك مع سعي إسرائيلي واضح لتدمير الجيش العربي السوري وإخراجه نهائياً من معادلة الصراع العربي الصهيوني وهو الجيش الذي خاض كل الحروب مع العدو الإسرائيلي وشكل له صداعاً دائماً ولا سيما أنه شكل الرديف لقوى المقاومة في تصديها للصلف الصهيوني التوسعي وكان تصنيفه وفق المعهد الملكي البريطاني كأقوى عاشر جيش في العالم ناهيك عن استهداف دمشق برمزيتها العروبية والمقاومة وهويتها القومية التي حملها حزب البعث العربي الاشتراكي كمشروع سياسي.
لقد استطاعت الحرب التي شنت على سورية تحقيق العديد من الأهداف التي سعت إليها من قبيل التدمير الممنهج للبنيان والمؤسسات الخدمية والقطاعات الإنتاجية والبنى التحتية وعشرات الآلاف من الضحايا بين شهيد وقتيل وجريح وتهجير ملايين السكان بحكم العنف والإرهاب الذي استخدم كأداة أساسية لتحقيق الأهداف المشار إليها إضافة إلى إلحاق أذية بالشعب السوري لم تصل إلى خلق حالة اصطفاف ما تحت وطني ولكن الحرب والعدوان فشلا في تحقيق الأهداف الكبرى والمتمثلة في إسقاط النظام السياسي والاستيلاء على الحكم بالقوة العسكرية والمسلحة بأدواتها المختلفة وعلى رأسها التنظيمات المتطرفة والإرهابية إضافة إلى الفشل في تقسيم سورية أو انقسامها مجتمعياً وتقاسمها وكذلك بقي الجيش العربي السوري محافظاً على وحدته وقوته العسكرية وعقيدته القتالية وحافظ المجتمع السوري على هويته الجامعة ولم ينفرط عقده الاجتماعي أو تتشظى بنيته المشكلة له وهي الفكرة الحضارية السورية القائمة على التنوع المتناغم والمنسجم بالرغم من حمى التجييش الطائفي والمذهبي والعرقي التي مارستها ماكينات الإعلام المعادي في غرفه السوداء التي كانت وما زالت طرفاً أساسياً في الحرب والعدوان على سورية.
من هنا يمكننا القول إن سورية قد انتصرت على أعداء شنوا حرباً مركبة عليها، والانتصار يتمثل هنا بمنع تحقيق الأهداف الكبرى والعريضة للعدوان والتي تمت الإشارة إليها وإذا كان الحديث عند البعض عن حجم الخسائر فهي بلا شك كبيرة سواء البشرية أم المادية من قبيل تدمير المدن والحواضر والأذية البشرية المعنوية والمادية التي أصابت الجسد السوري فهذه تعكس حقيقة أن الانتصار في حرب بهكذا حجم وأدوات ومغذيات خارجية وأذرع إرهابية متمرسة في سفك الدماء وغيرها من أدوات القتل يصبح من الطبيعي أن تكون التكلفة البشرية والمادية مرتفعة بل وباهظة والمنتصر والرابح هنا ليس من دفع التكلفة الأقل وإنما من ربح استراتيجياً وسياسياً ووطنياً ولعل نموذج الحرب العالمية الثانية يعطي مثالاً على ذلك فالتكلفة البشرية والمادية للمنتصرين في الحرب وهم الحلفاء كانت أضعاف ما خسرته ودفعته ألمانيا النازية وإيطاليا جراء ذلك وكذلك الحرب في فيتنام.
لقد تعرضت سورية لحرب من حروب الجيل الرابع وكان من أهدافها التدمير المتدرج للمدن وزعزعة الاستقرار وتحول الناس إلى قطعان هائجة وشل قدرة البلد على تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين وإنهاك السلطة بحيث تخضع لإرادة الخصم وتتحول البلاد إلى دولة فاشلة.
إن الانتصار – بالمعنى الاستراتيجي – يحصل قبل طي ملف الحرب والصراع من خلال كسر شوكة العدوان وقواه الضاربة وإخراجها من المعادلة العسكرية ما يعني أن ما تبقى يدخل في إطار المناورة والعمل السياسي كمخرجات لما هو حاصل على الساحة العسكرية وهذا ما يوصِّف المشهد السوري راهناً فالبعد الدولي للأزمة يستدعي صبراً استراتيجياً سينتهي حتماً بالنهايات السعيدة.
khalaf.almuftah@gmail.com
د. خلف المفتاح
التاريخ: الأثنين 25-3-2019
رقم العدد : 16939
السابق
التالي