الملحق الثقافي..حاتم حميد محسن :
في عام 1784 وصف عمانوئيل كانط الإنسانية بحالة اللاّنضج أو «عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص بدون إرشاد من الآخرين» (جواب لسؤال ما هو التنوير؟ Trans Mary C. Smith) (1). سبب اللاّنضج هذا هو «الكسل والخوف من التحدي». لكي يحدث التقدم، يجب «أن نمتلك الشجاعة لاستخدام فهمنا».
يرى كانط أن التقدم التاريخي يجب أن يُنتج شكلاً ما من الحرية: «بالنسبة إلى التنوير من هذا النوع، كل ما نحتاج اليه هو الحرية. هذه الحرية يجب أن لا تُفهم كحرية سياسية أو اجتماعية: «المستوى العالي من الحرية المدنية يبدو ذا فائدة لحرية الناس الفكرية، مع ذلك أنه أيضاً يضع حواجز أمامها لا يمكن التغلب عليها. وعلى عكس ذلك، أقل مقدار من الحرية المدنية يعطي للحرية الفكرية مجالاً كافياً للتمدد الى أقصى حد».
في الحقيقة، يرى كانط أن الناس العاديين هم أحرار في التفكير، لكن يجب أن تكون هناك حدود لحريتهم: «ناقش بأكبر ما تستطيع ومهما تحب، ولكن أطع». عندما يبدأ الناس بالنقاش أكثر من مجرد الحديث حول أفكار المجتمع، فإن المجتمع سينزلق نحو الفوضى.
ولاحقاً، وبعد ستين سنة، أخبر كارل ماركس الناس العاديين بأن «تحرير المجتمع من القيود يتم التعبير عنه بالشكل السياسي لانعتاق العمال»(Estranged Labor,1844,trans Martin Mulligan,1959). كان هذا بداية تفكير جديد سيعطي معنى جديداً لأفكار كانط القديمة. مقابل نظرية كانط، اعتقد ماركس أن الظروف الحالية للجماهير لم تكن نتيجة النقص في شجاعة التفكير وإنما ناتجة عن حقيقة أن هناك دائماً طبقة مضطهدة تعيش تحت رحمة الطبقات العليا. الحل الماركسي كان مشابهاً لحل كانط: الإنسان (وهو العامل) يجب أن يتحرر لكي يكون حراً. العمال يجب أن يستعملوا عقلهم ليتّحدوا في حزب واحد يحمي مصالحهم ضد البرجوازية – ذلك الحزب هو الحزب الشيوعي.
يوضح ماركس بأن «انعتاق العمال ينطوي على انعتاق إنساني عام، وهو ينطوي على هذا لأن الخضوع الكلي للإنسان يتجسد في علاقة العامل بالإنتاج، وان جميع علاقات الخضوع ما هي إلاّ أشكال ونتائج لهذه العلاقة».
إن العامل هو رمز للإنسانية عموماً. في هذا الموقف، العامل «يشعر بنفسه متحرراً فقط في وظائفه الحيوانية من طعام وشراب وتكاثر..إلخ، أما في وظائفه الإنسانية لم يعد يشعر بذاته، أي شيء عدا الحيوان. ما هو حيوان يصبح إنساناً وما هو إنسان يصبح حيواناً». بكلمة أخرى، الرجال والنساء يجب أن يدركوا بأن الطريقة الوحيدة ليصبحوا أناساً حقيقيين، هي أن يصبحوا متزودين بالمعرفة: المعرفة بالظروف، والمعرفة بكيفية أن يصبحوا أفضل. هذا ربما لم يتم توضيحه من جانب ماركس لكنه جرى تضمينه. كيف يمكن للعمال التخلص من أغلال الاضطهاد، إذا كانوا غير واعين بظروفهم؟ وكيف يمكن أن يكونوا واعين بظروفهم، ما لم يبدأوا التفكير بأنفسهم، تماماً مثلما أراد كانط؟
كل من كانط وماركس اعتبرا التقدم التاريخي يلعب دوراً في تحرير الناس. ولكن أيضاً اعتقدا أن هذه الحرية يمكن تحقيقها بواسطة الأفراد من خلال استعمال العقل والمعرفة. الفرق الكبير بينهما هو الطريقة التي فهم بها كل منهما السبب الذي جعل الإنسان الحالي غير متحرر. بالنسبة إلى كانط، يعود السبب الى العيب في كل فرد، أما ماركس فيرى أن اللوم يقع على الظروف الاجتماعية الخارجية. طريقتهما أيضاً تختلف. كانط يريد من كل فرد أن يكتشف التفكير لنفسه لكي يصل إلى نوع معين من تنوير العقل، أما ماركس يريد من العمال أن ينخرطوا في جماعات وأن يتخذوا فعلاً ضد مضطهديهم. إذا كان كانط تصوّر طريقاً مستقيماً للفلسفة من خلال أحداث السياسة، فإن ماركس اعتقد النقيض تماماً، أراد من الفلسفة أن تهز العالم عبر تحطيم الوضع القائم. بالنسبة إليه الأطروحة (أصحاب الملكية) والنقيض (العمال بلا ملكية) يجب أن يخلقا المركب وهو الشيوعية وحيث تصبح الملكية للعمال. هذا يتطلب ثورة في التفكير وفي السياسة.
يرى ماركس أن عبارة كانط «ناقش بأكبر ما يمكن وحول أي شيء كان، ولكن أطع» هي إهانة. الناس يعيشون في هذه الظروف الحيوانية لأنهم يطيعون. أفكار كانط مطلقة، التفكير لم يعد كافياً، والمطلوب فعل بل وأكثر من فعل، لابد من حدوث تغيير تام. هذا النظام القديم يجب استبداله بآخر جديد. النوع القديم للإنسان يجب أن يخلق مكاناً للجديد – الشيوعي. الإنسان الشيوعي سوف يجسد أفكار كانط الأساسية في التنوير، يفكر لنفسه حراً من تأثير الآخرين، لكن ما هو أكثر من ذلك: «الشيوعيون.. من جهة، هم عملياً، الجزء الأكثر تقدماً ورسوخاً من بين الأحزاب في كل دولة، ذلك الجزء هو الذي سيدفع كل الآخرين إلى الأمام، ومن جهة أخرى.. الشيوعيون لديهم مزايا الجماهير الكبيرة للبروليتاريا والفهم الواضح للمسيرة، الظروف، والنتائج النهائية العامة للحركة البروليتارية»(البيان الشيوعي، 1888).
التقدم على صعيد الفرد والمجتمع هو الانشغال المستمر لكل من كانط وماركس. هما يشعران كما نحن، أن الناس يحتاجون باستمرار لتحسين أنفسهم والمجتمع الذي يعيشون فيه. كانط وماركس كلاهما يشتركان بإحساس التفاؤل، يؤمنان أن هذا ممكن. ولكن ما إذا كان الإنسان المثالي يوجد حقاً في الواقع، ويؤدي أفعالاً سياسية تجعل العالم مكاناً أفضل، هي قصة مختلفة كلياً.
Philosophy Now, April-May 2019
……..
الهوامش
(1) في هذه الرسالة يجيب كانط أن التنوير هو انطلاق الإنسان متجاوزاً لانضجه الذاتي. هو يرى أن عدم النضج يأتي ليس من نقص الفهم وإنما من فقدان الشجاعة لدى المرء في استخدام العقل والحكمة بدون توجيه من الآخرين. يرى كانط أن غالبية الناس يشعرون بالراحة في اتّباع إرشادات وتوجيهات مؤسسات المجتمع، وهم غير قادرين على التحرر من نير تخلفهم بسبب فقدانهم التصميم ليكونوا ذي سيادة. من الصعب على الأفراد شق طريقهم خارج حياة الجبن والتخلف لأنهم لا يرتاحون لفكرة التفكير لأنفسهم. وحتى لو تمكّن الأفراد من التخلص من الدوغمائيات والصيغ الجاهزة، فهم لايزالون عالقين لأنهم لم يعتادوا أبداً على تربية ورعاية أذهانهم. الحل الأساسي للتحرر من أغلال اللانضج الفكري هو العقل. إن كل الجماهير يمكنها أن تصبح قوة لتحفيز التفكير الحر لدى الأفراد لو أنها كانت حرة للقيام بذلك، ذلك لأن هناك دائماً عدد محدود من الناس، حتى ضمن المؤسسات الحاكمة يفكرون لأنفسهم، وهؤلاء سوف يساعدون بقية الناس على تربية أذهانهم. يرى كانط أن الثورة قد تضع نهاية للاستبداد الأوتوقراطي وأشكال الظلم الأخرى، لكنها لن تنتج أبداً إصلاحاً حقيقياً في طرق التفكير. وفي السياق ذاته يتحدث كانط عن اللانضج. هو يجيب بأن عقداً كهذا يمنع وإلى الأبد أي تنوير لاحق للبشرية. إنه من المستحيل ومن غير الأخلاقي أن يقوم أناس من جيل معين بتقييد أفكار الجيل القادم، أو منع توسيع وتصحيح المعرفة السابقة وإيقاف أي تقدم لاحق. الأجيال القادمة غير ملزمة بقسم الأجيال السابقة. مع توفر الحرية، سيكون بإمكان كل مواطن، خاصة رجال الدين تقديم الأفكار والمقترحات إلى أن تتمكن الآراء العامة والرؤى من تغيير المؤسسات.
التاريخ: الثلاثاء9-4-2019
رقم العدد : 16952