من المعروف أن اللغة اي لغة انما تتجدد وتتطور بما يقدمه أبناؤها من إنجازات معرفية وفكرية وليس هذا فقط بل ما يبتكرونه في الإنجازات التقنية والطبية وغيرها بمعنى اخر ما يقدمونه للبشرية من جديد في اي مجال من مجالات العلوم المختلفة التي تثري وتقدم معنى إضافيا جديدا.
نعم اللغة كائن حي رفيق دربنا منذ اللحظة التي نتعلم فيها النطق بل من قبلها.. منذ أن نسمع ونخزن ونقلد إلى أن تكون لنا لغتنا أو حصتنا من المعجم اللغوي المستعمل ان كان عاميا ام فصيحا.
المهم ان زادنا اللغوي كما تقول الدراسات يزداد ثراء بالقراءة والفكر واللغة تتجدد وتزهو بما يقدمه أبناؤها لها.. بمعنى آخر علاقة جدلية ربما كان الشاعر الرائع ابو تمام قد أشار إليها يوما ما بشكل غير مباشر في بيت جدلي يمثل الحياة بشكل عام حين قال:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة.. رعاها وماء الرّوض ينهلّ ساكبه
صحيح أن البيت في الحديث عن جمل كان يرعى عشب الارض.. لكنه حين نفق عاد ليكون عشبا وقبل ذلك زادا للارض.. كان شاعرنا يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا..
أبو تمام الشاعر المجدد المتجدد باللغة والصورة والتوليد هو الذي حين سألوه: لماذا لا تقول ما يفهم؟ رد: ولماذا لا تفهمون ما يقال.. بلحظة قدح الذهن يقول لهم: لماذا تبلدت لغتكم وتجمدت عقولكم.. لم انتم هكذا أدوات باللغة والمعنى يقودكم أعرابي لم ير في هشيم الرمال الا الضب والناقة وانتم في ترف الحضارة ومع ذلك تبقون مشدودين إلى رمل اللغة المحنطة لا إلى مائها.. وقد شكا من العصر الجاهلي شاعر كبير شكا يباس اللغة وموت الجديد حتى في الشعر: لا نقول إلا مكرورا.. وقالت العرب قد يقع الحافر على الحافر.
هذا الجمود اللغوي افقد المفردات جمرها وصدق من قال ان اللغة فرطت من كثرة الاستخدام.. اي لغة وليست اللغة العربية وحدها.
عكس التيار
ثمة من يرى أن من حظ أبناء اللغة العربية انها بقيت صامدة منذ آلاف الأعوام ويمكنك أن تقرأ الشعر الجاهلي وتفهم معانيه اليوم وهذا ليس موجودا في لغات أخرى فثمة قطيعة في مراحل تطورها وهذا ايضا صحيح..
وببساطة يمكن القول ان الأمر يحمل النقيضين في لغتنا واللغات الأخرى.. في لغتنا هذا العمر المديد أصابها بالهرم واليباس فتحنطت عند نقطة معينة لتحنط أبناءها وهم يتغنون بها وحولها دون الاشتغال عليها فكان مرضها المزمن.
أما اللغات الأخرى فهي بنت القطيعة مع ما كان ولهذا ايضا وجهان ضرر لأنها انبتت عما كان وهذا مقتل والوجه الجيد انها تنمو لان ابناءها متكلميها هم صناع الحضارة وهي حال لسانهم.
من هنا نرى كيف أن الآخر فرض علينا المصطلح الفكري والسياسي والفلسفي وتسلل إلى أعماقنا مع الدواء والغذاء والماء والهواء إلى غرف نومنا هندس عقولنا وتربيتنا.. جعل أبناءنا أسراه أعاد تشكيلهم كما يحلو له.
وهذا ليس عملا عاديا ولم يكن بين ليلة وضحاها بل امتد العمل عليه لعقود من الزمن وتضافرت علوم شتى لتصل إلى هذه اللحظة: علوم النفس والتربية والاجتماع واللغة والتحليل والمصطلحات والقدرة على الاستلاب.. كل ما يبحث في الانسان من طب وعلوم أخرى كلها كانت معا.
وعلى صعيد لغتنا كل ماينفرك منها كان موجودا عند حراسها المحنطين ممن مازالوا عند قضايا اللوك اللغوي والجدل الذي لا يفضي الا إلى النفور وهذا لا يعني أننا مع ترك اللغة تنمو كما يريد لها البعض لتغدو الف لغة.
لكننا نسأل اليوم: كم مفردة جديدة دخلت معجماتنا اللغوية.. مفردات من صلب جذور اللغة العربية التي يقال انها ١٢ مليون جذر.. بينما اللغة الإنكليزية اقل بعشرات المرات ومع ذلك كل عام ثمة مفردات تدخل إلى كينونتها وتنتشر في العالم كله.
خلاصة القول: عقمنا اللغوي هو يباسنا الفكري والحضاري في الشعر والفكر والفلسفة والسياسة وعدم القدرة على الخروج من شرنقة الموت.. لغة لا يحتفي أبناؤها بالفعل والعطاء بل هم عند وهم خلودها باقون.. مثل هذه اللغة لن تكون بعد قرن من الزمن الا مفردات القطيعة.. لا الشعراء الذين تحدث عنهم جبران أحيوها فهم كما غيرهم في دائرة الوهم.. خلاصة الامر: نبحث عن معنى.. بل معان وهذا لن يكون ما دمنا خارج الفعل بكل شيء.
اليوم، حرب المصطلحات هي التي تحرك العالم، الغزو اللغوي والثقافي والفكري والاعلامي قبل كل شيء، تتحطم أسوار الصد الأولى، تنكسر جدران الوعي وحينذاك لا فائدة من أي سلاح، لهذا كله لابد من البحث عن معنى لكل ما يجري، فلا يمكن أن نشهر سيوفا من خشب للدفاع عن النفس ونحن في القرن الحادي والعشرين، وثمة عدو متربص بدمنا وخلايانا، بل تغلغل إلى أنفاسنا، البحث عن معنى للوجود والفعل والعطاء والخروج من شرنقة الماضي مع عدم قطع الصلة فليكن نقطة ارتكاز لقفزة نحو الأمام لا المجهول.
دائرة الثقافة
التاريخ: الخميس 2-5-2019
رقم العدد : 16969