الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية؟

ملحق ثقافي..إعداد: رشا سلوم:

ما بين إغفاءة عين وتفتحها، ثورة معرفية ومعلوماتية لا تقف عند حد من الحدود أبداً، تمضي بنا إلى عوالم كثيرة وكبيرة وبحر متلاطم من الأفكار والصراعات، إنه العالم الرقمي الذي لا يمكن معرفة أغواره وعمقه، ولا يقف المرء عند شط ثابت له، ولهذا كان دائماً موضع دراسات عميقة تقدم معطيات كثيرة، في الغرب يقفون عند تأثيره على الإنسان، وماذا يترك من آثار عميقة. كتاب الثورة الرقمية ثورة ثقافية، صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وهو كتاب يقدم قراءات معمقة في هذا المجال ما جعله محط الأنظار والقراءات التي تحلله وتحاول سبر أغواره ومن خلال النقد الفكري والثقافي، وكانت القراءة التي قدمها محمد يسري أبو هدور من أفضل القراءات التي أغنت الكتاب وقدمته لنا بطريقة معرفية سهلة، بينت جوانبه التي يجب أن نعرفها. ومن خلال هذه القراءة التي كانت عام 2018 / وتناقليتها المواقع والصفحات ومنها موقع الميادين، يمكن الوقوف عند الخطوط العامة التالية فيها، وهي كما أسلفنا تشرح الكتاب وتقدمه بطريقة منهجية وفكرية جيدة يقول أبو هدور:

في هذا الكتاب «الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟»، يعمل الباحث الفرنسي المتخصّص في اجتماعيات الإعلام، ريمي ريفيل، على تحليل وتفكيك ما يسمى باسم «الثورة الرقمية»، تلك التي أحدثت تغييراً هائلاً في العالم المعاصر، بحيث لم تقتصر آثارها على الصناعات وطرق الإنتاج فحسب، بل امتدت كذلك إلى المنظور المعرفي الإنساني بشكل عام.
ويطرح ريفيل العديد من التساؤلات، من قبيل مزايا انتشار المعلومة وتأثير التكنولوجيات الحديثة على تصرفاتنا الشخصية والجماعية، وتقييم كيفية التصرف والتفكير والمعرفة.
في بداية الكتاب، يؤكد ريفيل على أن الثورة الرقمية التي يمر بها العالم المعاصر، هي ثورة مرتبطة بتنمية التكنولوجيا والإعلام والتواصل، وهي الثورة العالمية الثالثة على المستوى المعرفي، بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية وسكة الحديد، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول.
ويبرز المؤلف وجهة نظر المؤرخ الفرنسي بيار كارون، التي تذهب إلى أن تلك الثورات الثلاث مختلفة جداً بصورة مبدئية، لكن لديها سمات مشتركة. ففي كل مرة نلاحظ ظهور شبكات موسعة (سكة الحديد، الكهرباء، والإنترنت)، مع ظهور شخصيات مبتكرة مثل جيمس وات وآلته البخارية، توماس أديسون وإمبراطوريته الصناعية، وبيل غيتس مع ميكروسوفت، فتلك التطورات التكنولوجية قامت بخلخلة طرق الإنتاج وطرق الاستهلاك واقترنت بظهور تصوّرات تعزز ميلاد الإنسانية الجديدة.
ثورة جديدة؟
يشرح المؤلف السبب الذي دعاه إلى وصف الثورة الرقمية المعاصرة، بكونها ثورة معرفية جديدة، حيث يؤكد على أن مجتمعاتنا الحديثة اليوم تعتبر في حالة خضوع لازدواجية معايير وهيكلة شاملة وعميقة للرأسمالية من جهة، وازدهار ما يسمى «المجتمع المعلوماتي» من جهة أخرى. بمعنى أن هناك عالماً أصبحت فيه عوامل الإبداع والمعالجة وانتقال المعلومة بشكل سلس، هي عوامل تشكيلية محددة للمصادر الرئيسية للسلطة والإنتاجية، وبمثل هذا السياق فإن تكنولوجيا الإعلام والتواصل، وبطريقة استعمالها في الشبكة وبمرونة تكيّفها وإعادة تنظيمها، تسهم في إبراز نمط جديد للحياة في المجتمع، وهو الأمر الذي يخلق ويشكّل ثورة معرفية جديدة بجميع المقاييس.
بمراجعة تاريخ وسائل الإعلام المسماة «كلاسيكية» أو تقليدية، فإننا سنجد سلسلة من الاختراعات التقنية (كالصحافة المطبوعة، والراديو، والسينما، والتلفاز)، والتي أثبتت مساهمتها في ظهور طرق جديدة في استهلاك المضامين الإعلامية، وخصوصاً في الميدان السمعي البصري.
يؤكد المؤلف أن ابتكار تلك الآلات الإلكترونية من أجل معالجة المعطيات (الحواسيب)، كان مخصصاً أصلاً للبحث العسكري، وأن دخولها في المجال المدني قد أصبح أكثر فاعلية بمرور الزمن لتدخل تدريجياً خلال الأعوام 1960 و1970 إلى المؤسسات والإدارات والمقاولات الكبرى، وهو ما نتج عنه شيئاً فشيئاً ما يسمّى «بالإعلام الرقمي» أو «التكنولوجيا الرقمية».
يؤكد ريفيل أن القطاع السمعي البصري قد تأثر بشكل كبير بالتقنيات الرقمية الحديثة، فالتلفاز على سبيل المثال، هو أحد الأجهزة التي تغيّرت كثيراً، فاليوم، أصبح للتلفاز ثلاثة أشكال (من حيث حجم الإرسال) وهي، التلفاز الرقمي بباقات عبر الكابل أو القمر الاصطناعي، والتلفاز الرقمي الأرضي والتلفاز على الويب.
التكنولوجيا الجديدة
ويذكر الباحث أنه إذا أردنا فهم التأثير الحالي للتكنولوجيا الرقمية في الأفراد وفي المجتمع المعاصر، فإنه يتعين علينا دراسة التأثيرات المتبادلة ما بين التكنولوجيا والمجتمع، لأن كليهما وحدتان غير مستقلتين؛ فهما في حالة تفاعل مستمر ودائماً في حالة تشابك والواحد منهما يقود إلى الآخر.
هنا يلفت ريفيل النظر إلى وقوع حالة من حالات التماهي والاندماج ما بين القارئ والكاتب، أو المتلقي والمصدر، حيث تتميز التكنولوجيا الرقمية بتلك الخصوصية التي تجعل من المستخدمين في الوقت نفسه مستفيدين ومنتجين للمحتويات الإعلامية، منها على سبيل المثال (تأليف الموسيقى، وإنشاء مدوّنات، وتصوير فيديوهات). ومن هنا يتعين على الباحثين «دراسة أنواع الحوارات المتبادلة وأنماط الخطابات والاستعمالات الشخصية أو الجماعية للويب عبر المجموعات الممارسة وروابط الألفة بين المبحرين ومجموعة المستخدمين على الخط الذين يتبادلون النصائح والمعرفة والملفات الرقمية والفيديوهات …إلخ».
ماذا يعني أن يكون لك الكثير من «الأصدقاء» على الفيسبوك؟
يشرح المؤلف تلك النقطة، فيوضح أن الصداقة «أن يصبح المرء صديقاً لأحد على الويب» لا تعكس الصداقة الحقيقية، بل هي مجرد وجود صلة –أحادية الاتجاه أو باتجاهين – بين صفحتي شخصيتين، وأن تلك الصداقة ليست عادة وليدة حضور في الحياة الحقيقية، ولقاء في زمان ومكان، ولكنها تقوم بالتعبير «أوافق أو أرفض أن أكون «صديقاً» حيث تتعدد الأسباب التي من الممكن أن تدفع شخصاً ما لطلب صداقة افتراضية لشخص آخر. ومن تلك الدوافع التي يذكرها ريفيل «الرغبة في المشاركة، وتقارب الأذواق واستراتيجية تعظيم الروابط، ومراقبة الغير، واللامبالاة النسبية».
الويب إذاً تعزز ما يسمى بالرغبة في عرض الذات، والتي يُفسّرها ريفيل بكونها العملية التي بمقتضاها «تخضع أجزاء من ذات الفرد لنظرة الآخرين من أجل المصادقة عليها».
وكذلك فإن الويب تمنح لذاتية المراهقين المضطربة فرصة التصرف بعبارات أرغب أو لا أرغب، حيث يتبادلون كل شيء وفق المزاج والحالة النفسية والأهواء الشخصية والعفوية. ولذلك، فالأمر هنا له علاقة ببناء الذات، حيث ينشأ الأطفال والمراهقون اليوم على أساس مبدأ «ابتكار الذات»، بحيث يبدأون بالبحث عن الاعتراف من قبل أقرانهم، ويفضلون التجربة على حساب نماذج الوالدين، ويبدو العالم الرقمي مثالياً في تلك النقطة تحديداً، حيث يمنح لهم الويب الفرصة لتوسيع نطاق تلك الاتجاهات بالتظاهر تحت غطاء هويات مختلفة، وذلك بالاعتماد على المظاهر وإظهار الذات، من خلال الإبحار بين النرجسية والتفاخر.
ثقافة المعلومة
بدخولها الميدان العمومي وسط سنوات التسعينيات من القرن الماضي، خلال عقدين، غيرت الإنترنت –بعمق-معالم وسائل الإعلام التقليدية، ومن ثم فإنها خلخلت الممارسات المهنية للصحافيين أنفسهم، وغيّرت جزئياً الطريقة التي يجري بها إخبار الجمهور؛ فكانت سبباً في إعادة توزيع الأدوار بين المنتجين والمستهلكين لمواد الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، في تغيير تدريجي لطرق اعتماد المعلومات وممارسات القراءة.

من هنا، فإن المؤلف يقرر أن المنطق الاقتصادي والمالي اليوم، والذي قد تقوى بشكل كبير في السنوات الأخيرة، قد أدى إلى إحداث آثار كبيرة في شروط عمل الصحفيين، بسبب سلطة الإعلام والمعلنين المتزايدة. فالبحث المحموم عن السبق الصحافي، والإخراج الإعلامي المنتظم، وصدارة المباشر، وازدهار الإعلام المتواصل وسيادة السرعة، كلها دلائل على تغيير الوتيرة والمضمون في إنتاج المعلومة لدى هيئات التحرير.
ويلاحظ المؤلف أن الفيسبوك قد فرض نفسه تدريجياً، وخصوصاً لدى الشباب، كإحدى الطرق المُثلى للوصول إلى المواقع الإخبارية والإلكترونية، «فالجمهور العام –في الواقع –أصبح في مقدوره أن يقترح بنفسه أخباره الخاصة وتعليقاته ويضعها على الخط؛ فالأشخاص بمشاهدتهم لحدث ما «كارثة طبيعية، أو عملية إرهابية، أو احتفالات بكل أنواعها» يستطيعون التقاط صور وفيديوهات بواسطة الهواتف الذاكية وإرسالها مباشرة إلى الشبكات الاجتماعية، أو توجيهها إلى المؤسسات الإعلامية الكبرى، وبعض الهواة يتقدمون أو ينافسون بشكل ما المتخصصين في الإعلام من دون أخذ الوقت لفرز المعلومة أو اختيارها».
ويستشهد المؤلف بموقع أومينيوز، بكونه المثال الأكثر شهرة للمواقع التشاركية، وقد أنشئ في العام 2000 في كوريا الجنوبية، وهو ينطلق من مبدأ أن كل مواطن يعتبر صحفياً محتملاً، حيث يجري تحرير الجريدة الإلكترونية من طرف كل من المهنيين الذين يحررون نحو 20 في المئة من المقالات، والهواة الذين يقومون بتحرير ما يقرب من 80 في المئة منها.
ويلاحظ ريفيل أن سيادة نمط الصحافة الرقمية قد لعب دوراً مهماً في إعطاء أهمية متزايدة لمتطلبات التسويق والبعد الصناعي لمهنة الصحافة، بحيث تم الدفع بالصحافيين إلى معالجة موضوعات دون غيرها، وفق تطلعات الجمهور، ومن ثم إعطاء الأولوية للموضوعات المثيرة، وبذلك تقوم صحافة تسويقية، وفق الطلب أكثر من العرض.
وبحسب البيانات الموثقة التي يستند إليها الباحث في كتابه، فإن الاعلام الرقمي قد ساهم بشكل ملحوظ في ميل الباحثين والقراء إلى المعلومة السهلة والخفيفة، والبعد عن المصادر الصعبة أو تلك التي تتطلب مجهوداً كبيراً لمناقشتها وتحليلها، وذلك أن أغلب المستخدمين للإنترنت (57 في المئة منهم) يتوجهون أولاً نحو الصفحات الأكثر شهرة، مثل غوغل وياهو والفيس بوك وتويتر، وأن نسبة لا يستهان بها (23 في المئة) تزور مواقع الإعلام التقليدي، ونسبة 6 في المئة فقط هي التي تستعمل التجارة الإلكترونية.
ومن واقع تلك الإحصائيات، فإن المؤلف يقرر بأن البحث عن المعلومات على شبكة الإنترنت يبدو ضئيلاً جداً وغير مُخصص؛ ويندرج في إطار التيار الإعلامي السائد والموجز والواقعي. «فالبحث عن الأخبار التفاعلية يبقي حتى الآن إقطاعاً للبعض، وهناك أبحاث في الولايات المتحدة تركت صدى كبيراً، تبين أنه رغم وفرة المواقع الإخبارية على الإنترنت التي تبدو للوهلة الأولى أنها تعزز فيض العرض، إلا أن أغلب المتابعين يقعون في أسر مجموعة قليلة جداً من المصادر الإخبارية، لأن مستخدمي الإنترنت يختارون عادة أربعة أو خمسة مواقع يفضلونها ويتصفحونها باستمرار».

التاريخ 14-5-2019

رقم العدد:16977

 

آخر الأخبار
"لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها