ملحق ثقافي:
لقد اختفى مصطلحا «الفردية» و «العبقرية» من خلال العديد من التغييرات في المعنى، ولا يمكن حتى الآن استخدامهما بطريقة لا لبس فيها. الفردية سوف تكون مفهومة ليس فقط «السعي الفردي وغاياته الخاصة أو اتباع أفكاره الخاصة»، كما يقول موراي، وإنما أيضاً باسم الوعي الذاتي، والسلوك العاكس لشخص واحد أو مجموعات من الأشخاص المتحالفة مع المصالح المشتركة والمثل العليا والأغراض.
مفهوم العبقرية هو أكثر تذبذباً، ويشترك القلق في المقام الأول مع مصطلح العبقرية، حيث يدل على القوى الإبداعية الأصيلة المتميزة التي نبغت بشكل غير عادي.
لم يفرد الأدب الحديث عن الفردية إلا أشياء شحيحة وغير مرضية، حتى إن الفن الفردي غير موجود عملياً، ولا يتمتع بعبقرية واسعة ومبهرة. ويضاف إلى ذلك أن النقد الأدبي لم يشارك في إبراز العبقرية، وإنما أدى إلى تشويهها.
التاريخ الكامل للفن ينبغي أن يكون مكتوباً تحت عنوان «تغيير جوانب الفردية في الفن». إن الفردية هي السبب في الرقي الفني والتطور الإبداعي عبر التاريخ. وترتبط العبقرية بهذه الفردية ارتباطاً لا ينفصم. إن تاريخ الفن هو تاريخ الأساليب. لكل شعب أسلوبه الفني، وداخل هذه الكتلة البشرية يتميز أفراد بأسلوبهم. إنها علامة الفردية للشعوب. كل فنان لديه في الوقت نفسه أسلوب فردي ودرجة من الحرية ضمن إطار الأسلوب الأوسع، الذي هو الأسلوب الوطني. إن الأساليب الفردية للفنانين تكشف عن الخصوصيات والصفات بدرجات متفاوتة في فترات مختلفة وفي سياقات ثقافية مختلفة.
لم يكن مفهوم الفردية ممكناً وقابلاً للتطوير قبل عصر النهضة الأوروبية، حيث بدأ الفنانون يرون أنفسهم ككائنات تاريخية، وهو شعور جديد، تمكن خلاله الفنانون من اتخاذ خيار خاص في نظرتهم إلى الفن ودوره في التاريخ.
إن حرية الاختبار هذه رافقها التغيير على الدوام، وفنانو عصر النهضة هم أول من باشر بهذا التغيير، وكان تغييراً مميزاً بالنسبة إلى فنانين من طراز رفائيل في عصر النهضة، وبيكاسو في العصر الحديث، ذلك الفنان الذي أحدث تغييرات جذرية في الأسلوب.
عكس دافنتشي موقفه من الفن السابق عليه بأنه رفض التقليد وقال بأن على الرسام ألا يقلد طريقة رسام آخر. وهذه هي الفردية التي يعززها دافنتشي، ويطرحها على مستوى الإبداع الفني وحتى العبقرية الفنية. وقبل فردية عصر النهضة، كان الفن منقرضاً تقريباً.
عززت الرومانسية أهمية التفرد الفني، وفتحت الباب أمام فكرة الفردية باعتبارها أساساً للعبقرية الفنية. ورأى الرومانسيون أن إبداعاتهم لم تكن تقليداً لمن سبقهم بل كانت مستقلة تماماً. وهكذا عززت الرومانسية الإمكانات الفردية التي لا يمكن التنبؤ بها وبمتغيراتها، وكذلك التأكيد على أن الفن لا يمكن تعليمه، وكما قال غوستاف كوربيه: «لا أستطيع أن أعلم بلدي الفن، وبعبارة أخرى أؤكد أن الفن هو فردي بالكامل».
هذه الأفكار السابقة تساعدنا على فهم التطور الغريب للفن، وعلاقته بالفردية. وتساعدنا أيضاً على فهم نقد الفنانين الذاتي لأنفسهم وعدم رضاهم عن أعمالهم، لإدراكهم أنهم لم يصلوا إلى الكمال الحقيقي، الذي لمع في ذهنهم وصوروه بطريقتهم.
يدرك الفنان أن العمل الفني لم يكتمل، رغم وجود قرار ذاتي بإنهائه، إلا أن الحبل السري بين الفنان وعمله ينقطع فجأة، وكأن حالة من التشويش قد حدثت فجأة.
يقول شويتزر إن الإغريق قد شعروا بالازدراء من أولئك الذين اضطروا للكدح بأيديهم مقابل المال، إنهم بالكاد في مرتبة أعلى من العبيد، إلا أنهم لم يكونوا سوى حرفيين، حالهم كحال الحلاقين والحدادين والطهاة. ولهذا نجد أن أفلاطون وأرسطو أوليا الشعر والموسيقى مكاناً كبيراً في مقابل الفنون البصرية، التي لم تجد في مؤلفاتهم سوى كلمات قليلة.
في القرن الثالث عشر أصبح العاملون الحرفيون في أوروبا منظمين في نقابات، ولم يكونوا قادرين على تحديد فرديتهم، وهذا ما جعلهم يبقون كحرفيين رغم جودة التدريب الذي كانوا يتلقونه. وعندما بدأت النهضة تصاعدت ثورة الفنانين ضد النقابات وخاضوا معركة على عدة جبهات: واحدة من أجل الاعتراف الاجتماعي، والثانية من أجل الاعتراف بالفنان باعتباره مثقفاً، يجب أن تدرج لوحته بين الفنون الليبرالية، والثالثة من أجل الاعتراف بحرية الفنانين في التصرف بالعلوم المكتشفة.
وهكذا فقد تطورت لأول مرة فكرة حرية الفنان وموقفه من الحياة. ودفع هذا المناخ الفكري الفنانين إلى التنافسية وإعلاء شأن الفردية. وفي المقابل طرح موضوع الفنان كرجل نزيه وطاهر وذي شخصية ذات شأنن وهذه الطهارة ترفع من شأن الفنان فوق الحرفي.
الفنان المتحرر كان في حاجة إلى التأمل، والتأمل يستلزم وجود وقت فراغ طويلاً نسبياً. ومثال ذلك أن ليوناردو عندما رسم «العشاء الأخير»، كان يبقى على السقالات من الفجر حتى الغسق دون أن يترك الفرشاة من يده، ودون أن يتذكر الطعام أو الشراب. وفيما بعد يبقى ليومين أو ثلاثة أو أربعة من دون أن يلمس عمله.
التأمل يتطلب العزلة والعزلة السرية هي ميزة لكثير من الفنانين. وقد ظهرت هذه السمة عند كثير من الفنانين العظماء في عصر النهضة، وانضموا بذلك إلى جماعة الشعراء. لم يسمح مايكل أنجيلو لأحد، ولا حتى للبابا، بالاقتراب منه وهو يعمل. وكان دافنتشي يدرك أن الاقتراب منه سيخرب عزلته وبالتالي عمله. وحذا معظم فنانين عصر النهضة حذو دافنتشي وأنجيلو، وعملوا بعزلة مطلقة. وتمخضت هذه العزلة عن أعمال عظيمة وفريدة في حريتها وجمالها، لا يضاهيها إلى اليوم سوى أعمال بيكاسو، ذلك الخارج من عصر النهضة، ولكن برؤى أشد فردية وجمالاً.
التاريخ 4-6-2019
رقم العدد:16993