مأزق الإنسان بين الحقيقة والوهم؟

  ملحق ثقافي..حاتم حميد محسن :

 

يكافح ذهن الإنسان لفهم الواقع، لكنه عملياً يستطيع فقط إيجاد مختلف المفاهيم والنظريات التي لها محدوديتها. من الضروري رسم حدود تلك المفاهيم أثناء التطبيق. إذا كانت هذه الحدود والقيود لم تُعرّف جيداً، فإن المفاهيم والنظريات قد تتحول إلى دوغمائيات وما يتبقى منها سوف يقود إلى الالتباس وتضليل الفهم. هذه المبادئ والنظريات لا يمكنها أن تصف تماماً الحقيقة النهائية بسبب عدم الإحاطة التامة بجميع عناصر تلك الحقيقة، وبسبب الحاجة لكشف وفهم اللاّمعروف المتأصل في كل ذلك. وهكذا، فإن بعض الانفصال عن الواقع سيكون حتمياً وإن الناس سيقعون في فخ الوهم. المشكلة الأساسية هي كيف يمكن رؤية الأشياء كما هي وبدون أوهام؟
الحقيقة والوهم
الكائن البشري حُشر بين الحقيقة والوهم، حيث أن الذهن يقيم في العالم الذاتي للأفكار والمفاهيم، لكن الإنسان يوجد فيزيقياً في عالم الواقع الموضوعي الذي لا يمكن فهمه كلياً بشكل مباشر. هذا يصبح أكثر تعقيداً باستعمال العقل والمنطق لإرشاد الذهن نحو الحقيقة، لأنهما يثقان باللغة التي هي غير كافية لوصف الواقع وعادة تقود إلى مفارقات. لا يوجد هناك جواب محدد للسؤال عن ما هية الواقع. بعبارة واضحة يمكن للمرء تعريف الواقع باعتباره كل ما موجود بصرف النظر عن إمكانية أو عدم إمكانية ملاحظته وفهمه. يمكن للفرد التمييز بين الواقع الظاهر والواقع النهائي، وكذلك بين الواقع الفيزيقي المستقل عن الإنسان والواقع الذهني المتشكل إنسانياً. الواقع الفيزيقي يُعرّف كتمدد في المكان، له صفات فيزيائية ويوجد بشكل مستقل عن المراقب. أما الواقع الذهني فليس فيه تمدد في المكان ويوجد فقط في ذهن الفرد وبشكل مستقل عن المراقب. ولكن إذا كان الأفراد يفكرون بأشياء مثل الأشجار أو الصخور أو الجزيئات الذرية أو الموجات الضوئية، فإن واقعهم يبدو للمراقب الإنساني كتمثيل جزئي للواقع النهائي. من الضروري التمييز بين مختلف أنواع الواقع وكذلك بين تمثيل الواقع في الذهن والواقع ذاته. الحقيقة النهائية لا يمكن تعريفها بواسطة المفاهيم أو الكلمات. إنها ربما لا تتغير ولكن من الصعب وجود أي شيء في الكون بشكل دائم. لا ضمان هناك ببقاء حتى القوانين الفيزيائية مع تطور الكون. الحقيقة النهائية ربما لا وجود لها. كذلك، هي لا يمكن الوصول إليها، لأنه من غير المؤكد مقدار الحقيقة التي هي غير معروفة كلياً أو لا يمكن فهمها بواسطة العقل الإنساني. الكائن الإنساني الفرد يبرز في العالم في عصر ومكان محددين، ولديه حياة قصيرة نسبياً في ظل الموت واللاّيقين المستمرين. خلال هذا الوجود المحدود، على الفرد أن يتكيف مع العالم الخارجي في صراع لا ينتهي ضد المجهول. حدود الوجود، التفكير المتحيز، وحدود الفهم كلها تؤدي إلى الأوهام والتي يمكن تصورها كحقيقة. هذه هي أوهام المعرفة والفهم، أوهام الإيمان واليقين، أوهام الزمن والأبدية، الحرية، الرغبة الحرة، ومعنى الحياة. الاوهام يمكن أيضاً أن تبرز من تصورات لا تدعمها الحقائق. الأوهام توفر راحة وجودية لكنها يمكن أيضاً أن تؤدي إلى عدم الرغبة لرؤية الأشياء كما هي وبدون أوهام. لكي يعترف المرء بالطبيعة الأسطورية للواقع، هو يصارع للتمييز بين الأوهام والحقيقة. ولكن ليس واضحاً دائماً ما إذا كان المرء يصل إلى فهم عميق للواقع أم أنه فقط ينتقل من وهم إلى آخر. يميل الإنسان بمعرفة أو بدونها، لتشويه أو تحريف الواقع لكي يجعله أكثر قبولاً. الذهن الإنساني يتم إرشاده نحو الأوهام التي يمكن تكييفها لحاجات الإنسان ورغباته. من الصعب القول أين ينتهي الواقع وأين تبدأ الأوهام، لأن الانتقال بينهما عادة غير واضح وملتبس. إن تصوّر الإنسان للعالم يتشكل باللغة. ولكن كل من اللغة وفهم الواقع عبر شكل من اللغة هما محدودان من حيث الأساس. السؤال هو حول ما إذا كانت الكلمات تمثل الواقع، أو مفهوم للواقع، أو تمثيل مختزل للواقع، وما إذا كانت الكلمات واللغة تخلقان حقائق منفصلة. حدود التصور، التفسير، الإدراك لا تسمح بفهم كامل للحقيقة. تصورات الإنسان للعالم ومفاهيمه للتفسير لا فكاك منها وغير قابلة للفصل. وهكذا ولمدى أبعد، تكون الحقيقة المتصورة قد نُسجت بشكل معقد مع أوهام الملاحظة وتفسيراتها. من الصعب اختزال وصف الحقيقة بحقيقة واحدة أو بأقل عدد من العناصر الأساسية. الذهن الإنساني منحصر بالدماغ الذي هو مليء بالمحددات والتي تمنعه من اتخاذ منظور منفصل. ليس للذهن اتصال مباشر بالواقع، القيود المفروضة على حواس الإنسان والأدوات التي يستعملها تسمح له بتصور جزء صغير فقط من الواقع. حتى تلك التي تُنسب إلى الكون المُلاحظ والمتوفرة للحواس والوسائل العلمية يمكن أن تتشوه بالغربلة والتفكير المتحيز. وهكذا، يكون الذهن الإنساني مقيداً فيزيقياً ومفاهيمياً بمحدداته وبرمجته. وبالتالي، فإن الحالة الفيزيقية والذهنية للكائن هي التي تقرر ما يفكر فيه وطريقة تصوره وتفسيره للواقع. وبما أن دماغ الإنسان يقتصر على عالم بثلاثة أبعاد، فإن الذهن أيضاً مقيد بهذه الظروف. التعلم الرياضي يوفر تمدداً إلى ما وراء الحدود الطبيعية للتفكير. غير أن الذهن غير قادر على تصور الأشياء وراء حدود المنطق أو التفكير الرياضي إلى ما وراء الحدود المفاهيمية. حواس الإنسان محدودة، إنها تقرر حدود العالم الملاحظ. مع ذلك، فانه في وعي الحاضر، يبرز الوهم بأن المرء يتصور العالم ككل بدلاً من جزء منه. يمكن للمرء الخلط بين «الواقع» و»المظهر» أو أجزاء مما يمكن ملاحظته. المأزق النهائي هو في تقرير الواقع العميق الكامن وراء مظهر الواقع. التجريد العلمي هو تقريب للواقع وليس الواقع ذاته. النظريات العلمية يمكنها فقط أن تقدم خارطة محدودة للواقع، وليس تمثيلاً دقيقاً له. في التحليل النهائي، لا يمكن أبداً للمرء التأكد من المطابقة المباشرة بين النظرية والواقع. يستطيع المرء فقط الحكم على النظرية على أساس قدرتها التنبؤية. الإنسان يكافح من أجل بناء وتنبؤية كعلاج لفوضى ولايقين الحياة. الأفراد دائماً جزء من هيكل أو بعض بناء. هم اُدخلوا في عالم مستمر أو مجتمع معين أو ثقافة أو دين فيها للفرد تأثير ثانوي فقط. الفرد إما يحاول التكيف مع هيكل معين أو يحرر نفسه منه. ولكن حتى لو نجح المرء في تحرير نفسه من هيكل معين، فهو سينتهي إلى هيكل مختلف آخر. الجزء الأصعب هو التحرير الكامل من كل القيود التي تتضمن الذات والأنا، والمجتمع، والبيئة، والانتقال إلى ما وراء عالم الحواس المضلل، وملاحظة العالم مباشرة كما هو. بما أن العالم يتم تصوره من خلال الرموز المتكونة والمختزنة في أذهان الأفراد، فإن السؤال هو ما إذا كانت هذه الرموز أو images، التي هي مجرد تمثيل للأشياء وليس الأشياء الحقيقية، تمثل حقاً الواقع وكيف تؤثر في تصوره وتفسيره. القضية الهامة هي كيف نحرر الذهن من الأفكار المتصورة مسبقاً، وننظر إلى كل رمز من منظور جديد بدون أي تأثير للمعاني القبلية. في هذا السياق، يكون المأزق الأساسي لحياة الإنسان هو، أنه على الرغم من أن القيود الفكرية لا تسمح للذهن لتفسير الواقع الموضوعي كشيء هادف تماماً، إلا أن الذهن لا يقبل الواقع كشيء بلا معنى بالمطلق. هناك دائماً لايقين وغموض حول معنى الكون والحياة الإنسانية.
المفاهيم
هي بناء من النظريات، وأفكار مصممة يمكن إيصالها باستعمال أنظمة رمزية مثل اللغة الطبيعية أو الرياضيات. المفاهيم والنظريات هي أبنية إنسانية، ليس لها وجود مستقل خارج الذهن وهي دائماً جزئية ومؤقتة. تجارب الإنسان ورؤاه تصطبغ بمختلف أنواع المفاهيم التي تقارب تمثيلات الواقع في الذهن، وبهذا لا توجد هناك مطابقة مباشرة بينها وبين الواقع. لكن هذه المفاهيم تقدم بعض المعايير لليقين وهي بناء لإيصال الملاحظات والأفكار في بحث مستمر عن الحقيقة والمعرفة. القلق الوجودي العميق والأساسي هو في محاولة التوفيق بين رغبة الإنسان في العيش في كون هادف ومنظم من جهة، والحقيقة التي لا مفر منها بأن الكون عند مستوى أساسي هو احتمالي وأن وجود الإنسان غير مؤكد. الإطار المفاهيمي يوفر نوعاً من الوقاء الوجودي ضد حالة اللايقين الدائمة للحياة وهو أيضاً يوفر بعض العزاء لكون معروف نسبياً ويمكن التنبؤ به. غير أن المفاهيم والنظريات تخلق أيضاً انطباعات زائفة للفهم، جاعلة من الصعب التمييز بين الوهم والحقيقة. المفاهيم تميل لتقييد الذهن الإنساني. المفارقة هي أن المرء يجب أن يطور مفاهيم ويشك بها في أن واحد، ويجب عليه أن يتعلم ولا يتعلم أيضاً لكي يخلق بعض المعنى للواقع. وإلاّ، فإن المرء يتقيد بالمفاهيم غير التامة ويُترك مع أوهام الفهم. بما أن كل المفاهيم هي هياكل إنسانية، فهي لها محدودياتها. تحديد حدود المفاهيم عند التطبيق هو أمر ضروري. إذا كانت هذه الحدود والقيود لم تُعرف وتفهم بشكل دقيق، فإن المفاهيم قد تتحول إلى دوغما وأوهام. الذهن الإنساني يميل للالتصاق بالمفاهيم التي عادة تصبح أوهاماً راسخة في الذهن. مثال على ذلك هو مفهوم الزمن، الذي لا غنى عنه لتجارب الإنسان لأنه يعرّف الحياة ويعطيها معنى. لكن الزمن غير حقيقي بالمعنى الصارم، ما هو حقيقي هو التغيير أو العملية. الزمن هو قياس للتغيير مثل الحركة أو التقدم في العمر، مقابل مقاييس متفق عليها مثل قوانين حركة الكواكب أو الساعة. هذه التغيرات تترسخ في ذهن الإنسان منذ الولادة وهكذا تبدو كصفات طبيعية للحياة. زمن حياة الإنسان هو قياس نسبي لعملية النمو البيولوجي المرتبط بحركة الأرض حول الشمس. لا وجود للزمن كواقع فيزيائي موضوعي، إنه بناء إنساني يوفر سياقاً للعالم المتغير باستمرار. في الحقيقة، ما يلمسه المرء طوال حياته ليس الزمن ذاته وانما التغيير، وكل الوسائل المستخدمة لقياس الزمن ترتكز على قياس التغيير. لكن وهم حقيقة الزمن مترسخ في ذهن الإنسان لدرجة أن الحياة يتم تصورها كتدفق عبر الزمن. وبما أن الزمن متناهي للإنسان الفاني، فإنه يصبح الصفة الثمينة جداً للحياة.
الحرية والرغبة الحرة
من المفاهيم الأخرى الهامة هو مفهوم الحرية والرغبة الحرة. السؤال هو ما إذا كان المرء حراً في عمل خيارات مستقلة عن العوامل الخارجية أو أن خياراته وأفعاله مقررة سببياً بالظروف والأحداث السابقة. التصور بامتلاك المرء رغبة حرة مترسخ في تجربة الإنسان – بدءاً من الخيارات الروتينية مثل ما نلبس وما نأكل حتى الخيارات التي تؤثر في اتجاه حياة الفرد. ولكن هل إن الفرد حقاً لديه حرية كاملة للاختيار؟ إذا ثبت أن الرغبة الحرة هي مجرد وهم، ذلك يعني أن الأفراد ليسوا مسؤولين عن أفعالهم، وهذا ستكون له دلالات عميقة للحضارة الإنسانية التي تثق بالرغبة الحرة للأفراد في مسائل الأخلاق والعلاقات الإنسانية والسياسة والقانون. وجود الإنسان وحرية الفرد والرغبة الحرة كلها مقيدة بالقوانين الطبيعية وبالمحددات الفيزيائية والفكرية بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتجاوز سيطرة الأفراد. هناك أيضاً التجارب الماضية والقرارات التي تؤثر على خيارات الفرد، بالإضافة إلى الغموض الإدراكي والحوافز اللاواعية التي تمنع الفهم الكامل لطموحات الإنسان وأفعاله. الرغبة الحرة لا يمكن عزلها عن المؤثرات البيئية التي قد تكون مختبئة أو لا يمكن فهمها بوضوح. لكن عدم المقدرة على تحديد حدود وقيود الحرية والرغبة الحرة قد يؤدي إلى تصورات مضللة بأنها غير مقيدة. قرارات الأفراد وخياراتهم يتم التوسط فيها عبر عمليات الدماغ الفيزيائية والكيميائية. تعقيدية التفاعلات بين ملايين الأعصاب في الدماغ هي هائلة، وإن ديناميكية هذه التفاعلات تتغير باستمرار استجابة للمؤثرات الخارجية والداخلية مولدة أفكاراً وخيارات جديدة. الذهن الواعي محدد فقط بجزء صغير من المعلومات أو الأفكار للتحليل في وقت معين، بينما الذهن اللاواعي غير منفتح للاطلاع الواعي. الكمية الهائلة من المعلومات من العالم الخارجي، والتجارب الماضية والذكريات، والنطاق المتوفر من الخيارات هي في تدفق مستمر، تنعكس وتتغير ضمن سياق الظروف المختلفة وفي كل لحظة. هذه كلها تحاك مع عوامل أخرى وعمليات غير مرئية للاطلاع الواعي والتي تؤدي إلى عدم التنبؤ بالسلوك الإنساني. العدد الهائل من العوامل المؤثرة على قرارات الفرد تجعل من غير العملي تعقّبها لمصدرها الأصلي بدرجة من اليقين التام. هناك مستويات متعددة من السببية، من الآليات الكيميائية البسيطة إلى العمليات البيولوجية والاجتماعية حتى السلوك. سلوك الإنسان وأفعاله يتطوران باستمرار مقابل خلفية التفاعلات المعقدة مع البيئة، بما في ذلك الأفراد الآخرين. المرء قد لا يعرف أبداً إلى أي مدى هو المصدر الوحيد للخيار أو الفعل وما مدى التأثير القادم من المصادر الخارجية. ما يبدو من نقص في السببية وعدم التنبؤ في السلوك الإنساني يمكن تصوره كحرية اختيار أو كرغبة حرة. قد لا يتنبأ المرء أبداً بالمستقبل بدرجة من اليقين. الانطباعات، الأفكار، الآراء، المفاهيم والمعرفة ليس لها دوام، لأنها تتغير باستمرار ويعاد تفسيرها. وهكذا بما أن المستقبل غير مؤكد ولا هو ثابت، لذا يمكن للمرء تطوير إيمان بامتلاك الحرية والرغبة الحرة حتى لو كانتا وهماً.

 

 

الحياة والفن
حياة الإنسان هي نعمة ونقمة في أن واحد. إنها مليئة باللحظات الرائعة والذكريات والتجارب مقابل الحالات المظلمة للألم والمعاناة والخوف من الموت واللاّيقين. عدم التأكد والغموض في الحياة يؤديان إلى قلق وجودي. التجارب طوال الحياة، مصحوبة بالمقارنات المستمرة والاختلافات بين الأضداد والخيارات، يخلق حالة من الاستياء المستمر والشعور المؤذي في أن هناك شيئاً مفقوداً في الحياة. في نهاية الحياة، وبعد مرور سلسلة لامتناهية من التغيرات، سيُترك الفرد دون جواب محدد عن سخافة الحياة هذه. في هذه الدراما الإنسانية، يبحث الأفراد كلاعبين إما عن دور، أو عن المؤلف الأصلي، أو عن المصدر الأساسي لذلك كله. الانطباع عن الحياة يتأثر كثيراً بعدم معرفة الموت، والذي يحفز السعي نحو التفكير الذاتي والمعنى. التوق للخلود هو رد فعل الإنسان للخوف من اللاوجود. ولكن ما معنى الحياة اللامتناهية؟ من الصعب تحمّل الواقع مع كل ما فيه من اللايقين أثناء فترة الحياة القصيرة نسبياً. مع الخلود، ستصبح استمرارية اللامعرفة بالحقيقة النهائية وإزعاجات الحياة امراً غير قابل للتحمل. ولكن الرغبة بالخلود كبيرة جداً لدرجة أن عقائد الإنسان وطموحاته دائماً ما تتشكل بها. مأزق إنساني آخر يرتبط بما يشكل «الحياة الجيدة» وكيف تتحقق. مظهر مهم لهذا السؤال هو ما إذا كانت الحياة الجيدة ترتكز على مختلف الأوهام، أو ما إذا كان من الأفضل إنجازها عبر البحث عن الحقيقة المتصلة بطبيعة الكون. من السهل تكييف الأوهام لرغبات الأفراد وحاجاتهم، على عكس الواقع الذي هو لا يختلف باختلاف ظروف الأفراد. ولكن عندئذ ما الفائدة من الهروب من الواقع من خلال الأوهام؟ الحياة ستصبح كوميديا ساخرة مليئة بالمظاهر. الصراع لتجاوز المجهول يرفع الإنسان إلى ما فوق أصوله. مفهوم «الحياة الجيدة» يصعب تعريفه أو قياسه، لأن كل فرد له طريقته في تصوّر ما هو مهم أو ثمين في حياته. تصوّر وتفسير الحياة الجيدة يعتمد على مختلف سمات الفرد ورؤاه بالإضافة إلى الظروف الشخصية والثقافة والدين والتجربة والمعرفة. بالنسبة إلى البعض، الحياة الجيدة تعني تلبية الحاجات الأساسية للبقاء أو غياب الألم والمعاناة، أو تحقيق الراحة من خلال اكتساب الثروة. بينما آخرون يرون الحياة الجيدة هي الحياة الخالية من الإثم طبقاً للمبادئ الدينية، أو هي الكفاح لتقديم وصف دقيق للواقع طبقاً للعلوم. بالإضافة إلى فكرة الفرد عن الحياة الجيدة، هناك أيضاً رؤية مشتركة للحياة الجيدة تتصل بالطموح لمجتمع عادل. في النهاية، لا شيء جيد بما يكفي لأن الرغبات لامتناهية. بدءاً من الحاجات الأساسية للحياة إلى السعي المستمر لراحة أكبر، فإن البحث عن الحياة الجيدة لا ينتهي أبداً واستمراريتها ليست ثابتة.
ولكن هناك أشياء لا يمكن تحقيقها أبداً، كل ما يمكن بلوغه هو دائماً ناقص ومحدود ومؤقت. حياة الإنسان هي مجموعة من المشاهدات العشوائية والذكريات والأفكار والخيارات والتجارب، وتفسيراتها المتحيزة. بعض هذه التجارب في الحياة يتم تصورها باعتبارها «جيدة». ثم هناك التجارب الماضية والقرارات التي يمكن أن تؤثر على تصور المرء للحياة الجيدة. الحياة يجب النظر إليها في كليتها، لكنها مركبة من عدد من الأحداث والذكريات التي تُلتقط في الذهن، حيث، كما في المؤلفات أو التراكيب المجردة، صورة الحياة تتكون بفعل سلسلة من الملاحظات الجيدة والسيئة. العالم ليس قناة للحياة الجيدة لأن المواقف المتكررة والصعبة مثل الأمراض والمشاكل المالية عادة تتدخل فيها. تحقيق الحياة الجيدة يستلزم انقطاعاً فيها بفعل مشاكل عشوائية، يتبعها كفاح مستمر لاستعادة الحياة الجيدة. كل شيء في تدفق مستمر. هناك دائماً شيء ما أو شخص ما يعكر حياة الإنسان. ولكن مع ذلك، هناك في الحياة «لحظات جيدة» تبقى في الذهن طويلاً مع استعادة متكررة. إذا كانت مثل هذه اللحظات تشغل الكثير من وعي الإنسان الواعي، فهي يمكن أن تعطي وهم الخيرية. الفن هو جهد إبداعي لالتقاط الواقع ولإيجاد معنى له من خلال أوهام الأدب والفن المرئي والموسيقى. الفن، كأي وهم آخر، يوفر العزاء لإزعاج وضجر الحياة. إنه جهد في كل من خلق الواقع والهروب منه. المفارقة هي أن الفن يشوّه الواقع لكي يكشف جوهره. تشويه الحياة بواسطة الفن يسبب الالتباس عندما يميل المرء لمقارنة وجوده مع ما هو موجود في كتب الخيال أو الأفلام. إذا لم يميز المرء تلك كأوهام فهو قد يصبح غير راض بالحياة. دراما الأوهام سوف تبقى دائماً خيالية، على عكس الحياة غير المكتوبة المحكومة بالصدفة. الأدب، الفن المرئي، الموسيقى هي تجسيدات رمزية للواقع، مثل التصور والتفكير. غير أن هناك ميلاً للخلط بين تلك الحقائق الذهنية والحقائق الفيزيائية والتعامل معها كما لو كانت حقيقية. وهكذا، فإن كمية كبيرة من جهد الإنسان يُخصص للتعامل مع التوترات بين أوهام وحقائق الحياة. الفن يمدد حدود تصورات الإنسان وفهمه للواقع. القصة مليئة بالاستعارات والرموز التي هي أوهام تمنح معنى للواقع الإنساني. الفن ليس مقلداً فقط للحياة وإنما هو ملتصق بها وهو يشوّه واقع الحياة عبر خلق معنى من خلال الأوهام والتصورات.
استنتاج
يبحث الإنسان عن اليقين والمعنى والمعرفة والحياة الجيدة في عالم غير مؤكد قد تصطدم فيه صخور عملاقة مع الارض فتنهي الإنسانية بالانقراض. ولكن الطبيعة هي ذاتها، بصرف النظر عن أي معنى أو تفسير يُلصق بها من جانب ذهن الإنسان. الطبيعة لا هي أخلاقية ولا هي غير أخلاقية، هي لا تختلف تبعاً لمفاهيم الإنسان ورغباته. العالم يتغير باستمرار، وإن حياة الإنسان هي سلسلة مستمرة من الأحداث العشوائية المحاكة، ولهذا هي لا يمكن التنبؤ بها. الكفاح للتوفيق بين ما يبدو من سخافة في الوجود الإنساني مع الرغبة بإيجاد معنى وهدف للحياة، يجعل من الصعب التمييز بين الوهم والواقع. وبالرغم من أن قوانين الطبيعة والكون تبدو مناسبة لظهور الحياة، لكن تطور الكون يبدو مختلفاً عن بقاء الإنسان. وهكذا، ربما يتساءل المرء ما إذا كان هناك أي معنى متأصل أو هدف للكون ولحياة الإنسان، أو ما إذا كان ظهور الحياة والذكاء الإنساني ليس أكثر من حادث تطوري. إن إمكانية انقراض الإنسان هي حقيقية، ذلك يعني العبث واللاجدوى من أي جهد للإنسان في وصف الواقع. كل المعرفة التكنولوجية والعلمية والأدب والمؤلفات الموسيقية والتفسيرات الفلسفية قد تختفي في الأعماق السحيقة للعدم. كل الجهود للإمساك بالواقع ستذهب سدى، وإن الإنسانية ستنقرض بنفس الحدث العشوائي الأول الذي أوجد الحياة في الكون. عالم كهذا يجعل من الصعب إيجاد معنى من منظور إنساني. ولكن ربما هناك حقيقة أعمق حول الواقع والحياة قد لا نعرفها أبداً.

 

التاريخ11-6-2019
رقم العدد:16997

 

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة