يظن الكثيرون أن الولايات المتحدة الأميركية هي امة التقنيات فقط, فلا كتب ولا قراءة ولا فلسفة, وهذا أمر مخالف للوقائع والحقائق, ففي عام واحد كما أشارت التقارير المعنية صدر في الولايات المتحدة أكثر 360 ألف عنوان تنوعت بين مختلف فنون الآداب والعلوم, وكان ريعها اكثر مما قدمته هوليود, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الاميركيون فعلا معنيون بالثقافة الانسانية التي نتحدث عنها ؟ وكيف يوجهون نشاطهم الثقافي؟
لن ندعي الإجابة على ذلك, ولكن من خلال الكثير من الدراسات يجد المرء أن الفكر الاميركي يعمل باتجاهين متساويين، الأول: تدمير الثقافات العالمية الاصيلة وهذا ما كان عندما دمروا حضارات الشعب الهندي الاصلي هناك, والأمر الثاني العمل على تسويغ وتبرير هذا التدمير ليبدو كأنه إنجاز حقيقي كلفت به أميركا امة القطيعة مع الماضي والمكلفة برسالة التطهير السماوي, منير العكش في كتابه المهم جدا الذي رصد هذه الإبادات وجاء تحت عنوان: أميركا والإبادات الثقافية, لعنة كنعان, في هذا الكتاب الكثير من الوقائع المروعة والتي جاءت حتى على أقلام الكتاب الاميركيين مفاخرين بها, يقول أحد الكتاب: مسخت فكرة أميركا جسد ضحيتها الهندي وثقافته إلى مادة ملوثة مؤذية للإنسان والطبيعة, لابد من تطهيرها أو التطهر منها, بل مسختها كما يقول المؤرخ جيمس وارولس إلى قذارة أحط من كل القذارات وحثالات دميمة تدب مع الهوام والحشرات, ولابد من صابون الحضارة.
في سياق هذه الجراحة الدماغية تركز حرب الابادة على الاطفال الهنود وعقولهم فيحقن الطفل باحترام الدولة الأميركية وعلمها ورموزها وبضرورة أن يحارب من اجلها ويدرب على الإيمان بفكرة القدر المتجلي الذي قضى بزحف الحضارة فوق كل أراضي وأرواح الهنود, وهنا يتعلم الطفل أن ما جرى لأهله وبلده مواجهة بين بربرية وحضارة وأن لاخيار أمامه, ولا امل لديه إلا بالإذعان, وعلى سبيل المثال ينشد الطفل الهندي قصيدة هجائية لنفسه ولقومه يوحد فيها بين القذارة البدنية والنفسية وبين الإنسان الهندي, ويتهم نفسه واهله بالتوحش والعنف والولوغ في دم المستوطنين الابرياء: (لطالما كنا صعاليك متوحشين, مخيفين, لا تستهوينا فنون السلام, نلتحف أغطية ملوثة بالشحم, ملطخة بلحم الجواميس ودم المستوطنين, وكنا قيظ الصيف وغباره, لا نغتسل إلا نادرا, من شهر إلى شهر, لكن صابون آيفوري كان شعاعا من الضوء. غسل حياتنا الشقية بالنور, وها نحن الآن بفضل صابون آيفوري متمدنون, نحترم القوانين كما ينبغي ونلبس الكتان والشاش والمشدات, تماما كما يلبس بيض الوجوه من الناس, لهذا فإني احمل معي حيثما اذهب قطعة من صابون آيفوري لأشهد العالم على ما تكرمت به المدنية عليّ وعلى زوجتي, وكيف طهرتنا وجعلتنا بهجة للناظرين.
هذه القصيدة أغنية يرددها الهندي كدعاية لصابون آيفوري, مع ان الأميركيين انفسهم يقولون: إن الهنود الاميركيين كانوا يستحمون يوميا على عكس المهاجرين الجدد, ومع ذلك تتهمهم القصيدة بالقذارة, الثقافة الاميركية عملت على جعلهم يتعلمون كيف ينظرون إلى انفسهم والعالم بعيون غزاتهم.
ومن يتابع ما يفعله الغزو العسكري الاميركي في العالم يجد كيف يدمرون الآثار والاوابد يسرقون الآثار وينهبون المتاحف, وعلى خطاهم كانت داعش بتدمير كل أثر يدل على حضارة, وعلى مرأى من العالم كله, والأمر لايحتاج إلى المزيد من الأدلة على ذلك, وعلى التوازي يقوم العالم الافتراضي الأميركي على مسخ الثقافات وتحويلها إلى سجل غباري بكبسة زر يمحى من الوجود.
وعلى المقلب الآخر صدرت كتب تتهم الآخرين بإبادة الكتب فمن الغريب أن كاتبة أميركا تتحدث عن إبادة الثقافات عند الشعوب غير الأميركية, وتحت عنوان: إبادة الكتب تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين, وقد ترجم إلى العربية ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية, ربيكا نوث الاستاذة الجامعية الاميركية في هذا الكتاب تحاول انتزاع صك براءة لما تفعله أميركا وتلقي به على الآخرين محاولة إظهار أميركا بالراعي المكلف حراسة العالم, وعقدتهما في ذلك الشعوب والثقافات التي تقف حجر عثرة بوجه مخططاتهم.
دائرة الثقافة
التاريخ: الاثنين 1-7-2019
الرقم: 17013