ملحق ثقافي..د. محمود شاهين :
رغم وجود اتحاد للفنانين التشكيليين العرب قارب عمره نصف قرن من الزمن، إلا أن المعلومات المتوفرة عن حركات الفن التشكيلي العربي المعاصرة لا زالت شحيحة، مبعثرة، غير علميّة ولا موثّقة، ما يستدعي العمل على تدارك هذا النقص، وفق أسس علميّة أكاديميّة مدروسة، للوقوف على إرهاصاتها وتطلعاتها التي تكاد تكون شبه واحدة، في البلدان العربيّة كافةً. لهذا فإن الفوز بكتاب حول هذه الثقافة البصريّة التي عاودت مجتمعاتنا العربيّة التواصل معها مطالع القرن الماضي، يُعتبر إنجازاً مهماً، ومكسباً عظيماً.
(الحركة التشكيليّة المعاصرة بالجزائر) كتاب وضعه الفنان التشكيلي الجزائري إبراهيم مردوخ، جمع فيه، وبمجهوده الشخصي، معلومات مهمة ووافية، حول هذه الحركة الفنيّة العربيّة ومصادرها، من خلال جملة من المحاور والعناوين، توزعت على ثلاثة فصول، خصص الأول منها للفنون الإسلاميّة في الجزائر، فتحدث عن الإسلام والتصوير، والحضارة العربيّة الإسلاميّة، وتوقف عند فن المنمنمات ورسامها المعروف محمد راسم. وخصص الفصل الثاني للفن الحديث الذي وزّعه على أربعة عناوين هي: انتشار الفن الفرنسي بالجزائر، لاسيّما تجربة الفنان نصر الدين دينيه وأعماله وآثاره، والرسامون الرواد. أما الفصل الثالث فخصصه للفن التشكيلي في الجزائر المستقلة، متناولاً جيل ما بعد الاستقلال، ثم توقف عند الفنان والثورة، والاتجاهات الفنيّة وتجمعاتها، والمدرسة الوطنيّة للفنون الجميلة ومتحفها، وبداية التكوّن الفني المعاصر، والمعارض والصحافة الفنيّة، والاتحاد الوطني للفنون التشكيليّة.
يرى الكتاب بأن الحضارة العربيّة الإسلاميّة من أهم المصادر الملهمة للفن الجزائري المعاصر، حيث جاء العرب بالإسلام إلى أرض الجزائر، حاملين معهم عناصر من فنونهم، تجسدت في العمارة والزخرفة وفن المنمنمات أو الرسم التصغيري (المنمنمات) ويعتبر الفنان محمد راسم الجزائري الرائد الأول لهذا النوع من الفن الإسلامي في القرن العشرين، ليس على الصعيد المحلي فحسب، وإنما على الصعيد العربي والإسلامي، ويرجع له الفضل في فرض هذا الفن وإدخاله كمادة أساسيّة في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر، الأمر الذي جعله يتبوأ بجدارة ريادة فن التصوير المعاصر في هذا البلد العربي العزيز.
كغيره من الفنون التشكيليّة العربيّة الحديثة، تأثر التشكيل الجزائري باتجاهات وأساليب الفنون الغربيّة، وظل خاضعاً لتأثيراتها إلى أن تأكد وبرز ونضج بعد الاستقلال، من خلال عدد من المؤسسات التي تُعنى به، كالمدرسة الوطنيّة للفنون الجميلة، وجمعيات الفنون ومدارسها الجهويّة المختلفة، التي ساهمت بتأهيل دفعات من الرسامين الجزائريين الذين تابعوا تكوين أنفسهم بمجهوداتهم الخاصة، وانكبوا على ممارسة الفن وتقديمه للناس، مؤسسين بذلك منصات الانطلاق الأولى لقيام حركة فن تشكيلي حديث في الجزائر.
يُشير الكتاب إلى أن هذا الفن، خلال مرحلة الاستعمار، كان مقتصراً على طبقة معينة من أبناء المعمرين الأجانب، حيث لم تتوفر للجزائري يومها، الإمكانات اللازمة لممارسته. وعندما رجع له اعتباره بعد الاستقلال، عَبّرَ بحرية تامة، عن أفكاره ورؤاه، لاسيّما تجاه مواضيع الثورة ومستقبل بلاده، مستخدماً أساليب مختلفة كالواقعيّة والتكعيبيّة والتجريديّة وغيرها. من الفنانين الذي برزوا في هذه المرحلة، فارس بوخاتم الذي تعلّم فن الرسم وهو جندي في صفوف جيش التحرير، الأمر الذي دفعه لتكريس فنه للأحداث التي عاشها خلال مشاركته بالثورة. جاء بعده الفنانون: آسياخم، حميد عبدون، عبد القادر هوامل، وإبراهيم مردوخ الذي ربط في لوحاته بين الثورة الجزائريّة وثورة فلسطين.
لقد سعت الدولة الجزائريّة (بحسب الكتاب) لتشجيع الفن التشكيلي، وإطلاق حركته في الحياة العامة، من خلال الإكثار من إقامة المعارض، وتنظيم المسابقات بين الفنانين، وتوجيه وزارة الثقافة والإعلام الوطني لرعاية هذه الثقافة الجديدة، والتعريف بالعاملين في حقلها، وهو ما قام به أيضاً، الاتحاد الوطني للفنون التشكيليّة الذي كان يضم في صفوفه غالبية التشكيليين الجزائريين، وكانت له مساهمة كبيرة في تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين العرب الذي أُطلق في دمشق العام 1971، كما حضر في المؤتمر الأول للاتحاد العام للتشكيليين العرب ببغداد عام 1972، وشارك في بينالي بغداد العام 1973، وبينالي الكويت والاسكندريّة.
من جانب آخر، تُعتبر مدارس الفنون الجميلة الموجودة في بعض المدن الجزائريّة، المصدر الأساسي لتكوين دفعات من الفنانين التشكيليين وأساتذة التربية الفنيّة، وتوجد علاوة على هذه المدارس، بعض مراكز تابعة لبعض الوزارات لتخريج المنشّطين الثقافيين. كما تسعى الدولة الجزائريّة عبر أجهزتها المختلفة، لتشجيع الفن التشكيلي، وبعث الحركة التشكيليّة في الجزائر، وتتمثل هذه الوسائل في إقامة المعارض الفنيّة اليوميّة في كل مكان، وفي تنظيم المسابقات بين الفنانين في المناسبات السنويّة الوطنيّة، ويلعب الإعلام الوطني دوراً نشطاً في بعث الفن والتعريف بالفنانين الجزائريين.
وتُعتبر وزارة الثقافة الأولى المعنيّة بشؤون الفن والثقافة، ويوجد تحت تصرف هذه الوزارة مجموعة كبيرة من دور الثقافة موزعة داخل الجزائر، تقوم بالاهتمام بالفنانين، وعرض إنتاجهم، والتعريف به لدى الجماهير، ورفع مستوى الوعي الفني والثقافي بين هذه الجماهير. أما الاتحاد الوطني للفنون التشكيليّة فهو المنظمة الوطنيّة الوحيدة التي تهتم بتأطير الفنانين التشكيليين، ويضم الاتحاد في بوتقته فنانين من مختلف الأجيال والاتجاهات الفنيّة.
يُعتبر فن المنمنمات أو الرسم التصغيري، من الفنون المزدهرة في الجزائر، ويرجع الفضل في ذلك إلى الفنان الكبير محمد راسم الذي يُعتبر بحق رائد المدرسة الجزائريّة المعاصرة في التصوير، ويرجع إليه الفضل في فرض هذا الفن وإدخاله كمادة أساسيّة في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر، ولهذا يمكن القول بأن الجزائر تمتاز بانفرادها بين الدول العربيّة بالاهتمام وتطوير هذا النوع من الفن الإسلامي، والفضل في ذلك يعود إلى محمد راسم بالدرجة الأولى.
ولد محمد راسم في أسرة فنيّة في الجزائر العاصمة سنة 1896 وقد ورث عن والده وعمه حبه للرسم، فقد اشتهر والده (علي راسم) بفن الحفر والزخرفة على الخشب، والتصوير على الجلد والزجاج، وكان ذلك أواخر القرن التاسع عشر. وكان أخوه عمر راسم كذلك رساماً وصحفياً مناضلاً. وهكذا نشأ محمد راسم في بيئة فنيّة محضة، ودخل مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر في سن مبكرة، وأظهر النبوغ والتفوق في الفن، وكان في بداية حياته الفنيّة يهتم بالزخرفة التقليديّة التي ورثها عن والده وأسرته، وقد كان دائم البحث عن أصول هذا الفن الموروث، وقد كان الاستعمار الفرنسي يحاول دوماً طمس آثار الحضارة الاسلاميّة وتأثيرها على حضارة الغرب، مُركّزاً على أن الشعوب العربيّة والإسلاميّة، شعوب لا تاريخ لها ولا أمجاد، وهذا كوّن عند محمد حافزاً لإثبات العكس، فواصل البحث والتنقيب في الكتب القديمة عن أصول الفن الذي ورثه عن الوالد والأسرة. وفي نفس الوقت اشتغل على ابتكار فن جزائري أصيل مرتبط بالتقاليد الفنيّة المحليّة وبالفن الإسلامي، وهكذا نشأ فن المنمنمات الجزائري متأثراً بالزخرفة المحليّة وبفن التصوير الإسلامي. تميز محمد راسم بنشاط عظيم، فقد قام بتزيين العديد من الكتب، وترك الكثير من المنمنمات الدقيقة الموجودة في المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر وغيره من متاحف العالم، كما أقام العديد من المعارض الفنيّة في الكثير من بلدان العالم، وحصل عل العديد من الجوائز والميداليات.
يُعتبر أعظم إنجاز للفنان محمد راسم تزيينه لكتاب ألف ليلة وليلة الذي ترجمه (مادروس) ويحتوي على 12 مجلداً، وقد تعاون في ذلك مع الرسام (ليون كاريه) الذي كان يقوم بالرسم ويتولى محمد تزيين مطالع الصفحات، ورسم المنمنمات، وقد تجاوز عدد الأعمال المنجزة الألف عمل. يُشير الكتاب إلى اختلاف أسلوب محمد راسم في تنفيذه للمنمنمات عن الأسلوب السائد في المدارس الإسلاميّة القديمة، لاسيّما لناحية اهتمامه بالمنظور الذي غاب من المنمنمات القديمة، وتميز أسلوبه بالشفافيّة، فالمنمنمة عنده تتكون من رسم موضوع معين بأسلوب تعبيري دقيق، ويُؤطر الصورة بإطار بديع من الزخارف الجميلة، كما يُدخل مرات عديدة عنصر الكتابة في غالبية أعماله، يُضاف إلى ذلك، قيامه بتضمين منمنمته أفكاره الثوريّة، ورسالته التي يتركها للأجيال اللاحقة، ومعالجته للموضوعات المحليّة المعاصرة والتراثيّة كليالي رمضان، والصيد، والأعراس التقليديّة، وقد توفي الفنان محمد راسم بالجزائر العاصمة بعد أن بلغ الخامسة والسبعين من عمره.
التاريخ: 2-7 -2019
رقم العدد : 17014