ما جَرى تسريبه عن مَضامين ما طُرح وتم تداوله في النسخة 19 من مؤتمر هرتزيليا، لا يَختلف كثيراً عن سابقاته إلا بعناوين المحاور الفرعية، بمُقابل تثبيت البحث بالاستراتيجيات التي كانت الدافع لدى الموساد للمبادرة إلى تأسيسه وعقده دورياً بحضور ما يُسمى النخب، (المسؤولون السابقون بالمراكز الحساسة في الكيان الإسرائيلي، وضيوف أجانب من المُتصهينين في أميركا وأوروبا) إلى جانب آخرين من رجال الأعمال والأثرياء الذين يُسخرون مؤسساتهم لخدمة الصهيونية ويُغدقون بتمويل مشاريعها.
مؤتمر هرتزيليا الذي يُعد (العقل الجماعي المُفكر للكيان)، والذي يُسمى أيضاً (مؤتمر المناعة القومية)، ليس عبثاً أن يكون من صُنع الموساد لا حكومة الاحتلال، فهو عملياً الجهة التي ترسم الاستراتيجيات الكبرى، وهو الذي يُقيم المسارات سنوياً فيُحدد أهميتها ومُواصلة السير فيها من عدمه، وهو الذي يَضع المُحددات والتعديلات الجوهرية ويَفرضها على باقي أجهزة الكيان ومؤسساته السياسية والعسكرية.
لكل ما تَقدّم، فإن أحداً لا يُمكنه ادّعاء المعرفة بحقيقة ما يُطرح بالمؤتمر أو الاطلاع عليه إلا بمقدار ما يُفرج عنه الموساد فيَجعله بمتناول الإعلام على شكل تقارير أو على شكل صورة لمُلخصات أبحاثه ومحاوره والآراء المُتقاطعة أو المُتناقضة التي برزت خلال نقاشاته المُغلقة لا العَلنية، ذلك أنّ الأهم والأكثر أهمية يبقى سرّياً لا يُكشف عن جُزئية فيه إلا لتحقيق هدف يخدم غاية أخرى، فيُسترشد بالهدف المُتحقق من الكشف عن هذه الجُزئية أو تلك للمُضي بما يتعلق بها، أو العودة عنها، أو إجراء تعديلات عليها.
الموساد وهرتزيليا ثُنائية الكيان الإسرائيلي الفاعلة بكل المجالات ليس الأمنية والعسكرية فقط، بل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، رُؤيته الأمنية والعسكرية قَرار، ولا تتحول رؤيته الاقتصادية إلى أقل من ذلك، شأنها شأن ما تراه هذه الثنائية في مسائل أخرى يكون الموساد دائماً الأول في مَخاضاتها، استكشافاً دراسة وبحثاً، وصولاً لاتخاذ القرار.
يوسي كوهين رئيس جهاز الموساد بافتتاح هرتزيليا 2019 كشفَ ربما للمرة الأولى – الكَشفُ بذاته ليس عَفوياً – عن أن الموساد أنشأ وحدة لعلاج القضايا السياسية من أجل تحديد فرص السلام، وتحدث علناً عن أن من مَهام جهازه نَسج علاقات مع الدول العربية التي لا تُقيم علاقات مع كيانه، وقال نحن من يقوم برصد فرص السلام ويَدفع بمسارات تحقيقه. فهل فكر أحدٌ برصد عُمق الاختراقات التي يُحققها الموساد بالمجتمعات العربية المستهدفة، وكلها مُستهدفة؟.
إذا كان من المُسلَّم به أن اختراق قصور ودواوين حكام الخليج لا يحتاج خططاً مُحكمة يَضعها الموساد لتحقيق غاياته، ذلك لأسباب بات يعرفها الجميع من أنّ العمالة والخيانة هي في أساس جينات هؤلاء الحكام، فإن اختراق المجتمعات الخليجية وغير الخليجية والإمساك الصهيوني بأدوات التأثير فيها، هو أمرٌ خطير جداً، لا لأنه فقط سيُسهم بإنجاح مُخططات الاستهداف الصهيوأميركية، آخرها صفقة القرن، بل لأنه الاختراق الذي قد يُسقط مَقولات إن الشعوب ستَرفض التطبيع حتى لو طَبّعت الحكومات – كما هو الحال مع شعب مصر الشقيق – ذلك في مُقابل عدم الرفض، أو ربما التصفيق لمَقولات: إنّ المصالح المُشتركة بين (إسرائيل) والدول العربية هي حقيقية، وإن هذه المصالح قد تُنتج فُرصاً نادرة للسلام! يَرصدها الموساد وليس غيره؟!.
علي نصر الله
التاريخ: الخميس 4-7-2019
رقم العدد : 17016