في مناسبة نيلها جائزة أدورنو، وخلال خطابها طرحت الفيلسوفة جوديث بتلر تساؤلاً: كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة..؟
بالطبع لا ينسحب كلام «بتلر» صوب ما يفعله عالم الأدب من انجرافات لتربة الفكر الإنساني.. وما يسببه من انزياحات في بنية أفكار المرء..
ومع ذلك لعل الجواب يأتي من خلال الأدب نفسه، وما فيه من عوالم إبداعية تخييلية.. لاسيما حين نطق بروست عبارته منحازاً إليه: «الحياة الواقعية، هي آخر ما يُكتشف وينوّر. وإن الحياة الوحيدة التي تُعاش بكاملها، هي الأدب»..
ما يعني أن الأدب هو الحياة «الجيدة» الوحيدة التي تستحق أن تُعاش.. ومقياس «الجودة» كانت تحدثت عنه بتلر في تمييزها بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم.. أي الرغبة بحياة جيدة.
يمكن للأمور أن تنقلب، وتصبح الحياة الفعلية المعطاة لنا لا تتأتى إلا من خلال «الأدب».. لتتحول الحياة الواقعية إلى نوع من العيش الأجوف.. خاوية.. بفيض مرارتها وقحط جمالياتها.
في إحدى مقالاته العائدة لعام 1985، يكتب الروائي ماريو فراغاس يوسا: «على الأدب أن يورّط نفسه في حياة الشارع، في الجزء المخفي من التاريخ، كما كان يفعل في الماضي، دون أن يفقد متعته»..
يميّز يوسا في مقالته تلك، بين نوعين من الأدب، أو بتعبير أدق بين وجهتي نظر مختلفتين من حيث رؤية كل منهما لمعنى الأدب وما هي وظيفته في الحياة.. «في الوقت الذي يتحول فيه الأدب إلى هواية دون أي قيمة حقيقية في البلدان التي يتم وصفهما بالمتحضرة والمتمدنة… يصبح الأدب على درجة أعلى من الخطورة وأداة طرح أفكار هدّامة في البلدان التي لا تنعم بالدرجة ذاتها من الحرية..»..
فثمة جزء من ممارسي الكتابة الأدبية أنفسهم ينظرون إليه على أنه لا يتجاوز أي قيمة أبعد من مجرد الترويح عن لحظات الملل.. وبالطبع يحاول يوسا كشف ما يعاكس ذلك.
في مقالة أخرى للروائي البيروفي.. يعدد الكثير من ميّزات القراءة الأدبية.. كأن يساعدنا مثلاً «على فهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل».. ويؤكّد «نحن نتعلّم كيف نتحدث بعمق وبدقة وبمهارة من الأدب الجيد».. ولا ينسى التذكير بميزة الأدب الفضلى حين يصبح وسيلة لإثارة عدم الرضا عمّا يوجد..
في كتاب «فلسفة علم الجمال الأسود»، يتحدث مؤلّفه (بول. س. تايلور) عن العمل الفني ملاحظاً أنه «ليس في اكتماله كموضوع جمالي، بل كعنصر تكويني في نسيج العالم الأوسع للأفكار والحركات والأحداث»..
مختلف أنواع الأبداع بشقيه الفني والأدبي، تخلق شبكة واسعة من الأفكار.. التي تتلاقح مع أفكار المتلقين.. لتخلق تموجات من عوالم لأفكار تتولّد وفق سيرورة دائمة تغذّي العمل الإبداعي نفسه..
الأدب يخلق فينا طاقة لا تنضب لرؤية جماليات الحياة والتقاط القدرة على التمييز بين العيش الجيد وغير الجيد.. اكتشاف ينابيع فوّارة من الرغبة في العيش الكريم الذي نستحق.. في حدود دنيا تؤمّن لنا التوازن بين ما هو كائن وما يفترض أن يكون.
lamisali25@yahoo.com
لميس علي
التاريخ: الخميس 8-8-2019
الرقم: 17044