بالرغم من الخلافات التي تشوب العلاقات التركية الأميركية حالياً، وهي الخلافات التي اتخذت أبعاداً جديدة بعد الحرب الاقتصادية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على نظام أردوغان، وصفقة صواريخ الـ (s400) التي وقعها الأخير مع موسكو خلافاً لرغبة واشنطن ومصالحها الاستراتيجية، بالرغم من كل ذلك لم يكن صعباً توقّع حصول اتفاق بين الطرفين بخصوص ما يسمى (المنطقة الآمنة) في شمال شرق سورية، وذلك بالنظر لتقاطع مصالح وأطماع كل طرف حول مكاسب الحرب على سورية، ودعم كل طرف منهما للإرهاب على طريقته، بغية تحقيق مكاسب سياسية ومحاولة حجز موضع قدم لهما على رقعة الجغرافيا السورية.
فبعد جدل طويل ومفتعل بين أنقرة واشنطن حول ما يسمى(المنطقة الآمنة) على الحدود السورية التركية، أعلن الطرفان التوصل لاتفاق بشأن هذه المسألة يقضي ــ حسب وصفهما ــ بإنشاء مركز عمليات مشتركة في تركيا خلال أقرب وقت لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة المذكورة، ومن سخرية القدر أيضاً والطرفان متورطان بالحرب على سورية وموجودان على أراضيها من غير موافقتها وبشكل غير شرعي وغير قانوني خلافاً للقوانين الدولية أن يطلق على هذه المنطقة (ممر سلام)، مع إدعاء حرصهما الكاذب على عودة ما يسمى المهجرون السوريون إلى بلادهم، في الوقت الذي تسبب تدخلهما ودعمهما المباشر للإرهاب بمقتل عشرات آلاف السوريين وتهجير الملايين منهم في الشمال والشرق السوري إلى جانب تدمير العديد من المدن والبلدات السورية ونهب الثروات والآثار التاريخية.
رغم أن تفاصيل الاتفاق الأميركي التركي مازالت غامضة إلا إن كل طرف يفسره حسب ما يحلو له، فالتركي يقول إنه فرض رؤيته الكاملة على الولايات المتحدة بحيث باتت جزءاً من خطة (المنطقة الآمنة) المسماة زوراً ممر سلام، ولا شك بأن الأميركي لديه ما يفاخر به لأن الاتفاق منع التركي من تنفيذ تهديداته بضرب الميليشيات الكردية التابعة له وجعل من نظام اردوغان جزءاً من الوجود الأميركي المحتل لمنطقة الجزيرة السورية، وفي جميع الأحوال لم يكن هناك من يستطيع الجزم بأن التركي سيفرض مشيئته على الأميركي في هذه المنطقة، وكلاهما في حسابات القانون الدولي معتديان على السيادة والأرض السورية من محور واحد هو محور العدوان ودعم الارهاب، والخلافات بينهما صغيرة جداً ولا يمكن أن تقود إلى صدام مسلح يحقق للسوريين أي مصلحة مهما كانت صغيرة، رغم أن كل طرف منهما يدعي حرصه على هذه المصلحة بطريقته، فالأميركي يدعي أنه موجود لحماية المكون الكردي ومحاربة الارهاب الداعشي وأنه يسعي لضمان حل سياسي للأزمة في سورية، في حين يدعي التركي حرصه على عودة المهجرين السوريين إلى أراضيهم، وينافق عند الروس والإيرانيين داخل مسار آستنة بأنه يحترم وحدة الأراضي السورية، فيما أطماعه وأجنداته باتت معروفة وليست بحاجة إلى دليل.
ومع وجود قناعة كاملة بأن التركي والأميركي يلعبان هذه اللعبة القذرة بأوراق محترقة، حيث الأميركي يستخدم مرتزقته من قسد، بينما التركي يستخدم مرتزقته فيما يسمى (الجيش الحر) وبقية الفصائل والجماعات الارهابية، فإن مصالحهما تتقاطع في السيطرة على هذه المنطقة السورية الغنية بالنفط والمياه والمحاصيل الزراعية والرغبة في إضعاف الدولة السورية ضماناً للمصالح الإسرائيلية، ومحاولة مصادرة القرار السوري المستقل على المدى البعيد خدمة للمشروع الأميركي بشكل عام حيث مازالت تركيا جزءاً من هذا المشروع ولم تخرج منها رغم الخلافات المعلنة حول المليشيات الكردية وصفقة الصواريخ الروسية وحجم ومساحة الدور الأخواني المناط بتركي ونظام أردوغان عموماً داخل المنطقة.
الغريب والمثير للسخرية هنا أن أوراق اللعب المحترقة في الاتفاق الأميركي التركي والمقصود هو مرتزقة كل طرف، قد اعتبر الاتفاق انتصاراً له ويصب في خدمته، إذ يقول احد متزعمي المجموعات المرتزقة التابعة لنظام اردوغان، بأن جماعته جزء من الاتفاق المعلن عنه وأن شراذمه الارهابية ستنتشر إلى جانب الجيش التركي (المحتل) في المنطقة التي ستدار من قبل ما أسماه (الحكومة المؤقتة) على غرار المنطقتين اللتين احتلتهما تركيا عبر عمليتي ما يسمى (درع الفرات)، و(غصن الزيتون).
وعلى المقلب الآخر بإمكان المرتزقة من قسد أن يدعوا أن واشنطن منعت نظام أردوغان من التدخل العسكري في المنطقة التي ينتشرون بها من أجل القضاء عليهم، مصدرين رسالة مفادها أن الأميركي لم ولن يتخل عنهم، فيما الواقع يقول عكس ذلك حيث كان المرتزقة في مرحلة ما كبش الفدا في الحرب المزعومة على داعش، وتشهد معارك عين عرب وكذلك عفرين ومناطق أخرى بذلك، فيما كانت الميليشيات الارهابية العاملة أو التابعة للنظام التركي مطية أردوغان لتحقيق أوهامه في التدخل بالشؤون السورية والضغط على الدولة السورية وكذلك في مواجهة الجيش العربي السوري البطل في معظم المناطق التي حررها على امتداد الجغرافيا.
بقي أن نذكّر بأن ما تسرّب من الاتفاق الأميركي التركي غير الشرعي يقول إن عمق المنطقة الآمنة المزعومة سيمتد على عمق خمسة كيلومترات داخل الأراضي السوري من نهر الفرات وصولاً إلى الحدود العراقية وهذا يعني أن المرتزقة الأكراد سينسحبون نتيجة الاتفاق من هذه المنطقة وفق مدى الأسلحة التي يستخدمونها فالأسلحة التي مداها 15 كم سوف تبتعد إلى عمق 15 كم مع المسلحين، والأسلحة التي مداها 20 وهكذا، لتبديد المخاوف الأمنية التركية، الأمر الذي يؤكد تسديدهم ثمن الاتفاق بين الأتراك والأميركيين بتقلص مساحة المنطقة التي كانوا يسعون للانفصال فيها، في حين لن تكون هذه المنطقة مخصصة لإقامة من يسميهم أردوغان المهجرين بل مجرد ممر (سلام) يعبرون منها إلى منطقة الجزيرة السورية أومايسمى (شرق الفرات).
عبد الحليم سعود
التاريخ: السبت 10-8-2019
الرقم: 17046