العالـــم فـــي ظـــل عـــودة شبـــح التسلـــح والحـــرب البـــاردة

 

يعيش العالم اليوم مخاضات حرب باردة جديدة عنوانها سباق التسلح بين الولايات المتحدة الأميركية والعديد من دول العالم وعلى رأسها الصين وروسيا، وهو ما يزيد ــ حسب مراقبين ــ من مخاطر زعزعة الاستقرار العالمي، وإضعاف قدرة النظام العالمي الحالي على الحد من التسلح واندلاع الحروب العسكرية، وتتأتى هذه المخاطر بصورة رئيسية من جراء انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، الأمر الذي اضطر روسيا الموقعة عليها على الرد بالمثل، ودخول الدولتين العظميين في حرب تصريحات وكل يحمل الآخر مسؤولية انهيار هذه المعاهدة.
من حيث المبدأ لم تكن هذه المعاهدة مراقبة بشكل يضمن سريانها وفق المعايير القانونية الملحقة بها بحيث يمكن التأكد من جدية كل طرف في الالتزام الكامل بها، ولا سيما على الجانب الأميركي الذي يعتمد في اقتصاده على بيع الأسلحة وصفقات الأسلحة الكبرى، ناهيك عن ميزانية عسكرية ضخمة توازي حجم ما تنفقه العديد من الدول الكبرى مجتمعة.
أوروبياً تعتبر فرنسا ــ وهي شريك الولايات المتحدة في الناتو ــ أن انتهاء معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى سيزيد من مخاطر زعزعة الاستقرار في أوروبا ويضعف النظام العالمي للحد من التسلح، يقول مسؤول فرنسي (إن بلاده تأسف لعدم التوصل إلى أي حل لإبقاء معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى سارية المفعول.
في السنوات الأخيرة شهدت مبيعات الأسلحة حول العالم ارتفاعاً ملحوظاً، وصف بأنه الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقد حافظت خلالها الولايات المتحدة على الحصة الأكبر من هذه المبيعات.
وقد ذكر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) في آذار الماضي أن الولايات المتحدة صدَّرت أكثر من ثلث الأسلحة العالمية خلال السنوات الخمس الماضية، ما يعزز دورها كأكبر بائع للأسلحة في العالم.
وقدر معهد (سيبيري) السويدي في آخر تقرير له حول عمليات تصدير الأسلحة العالمية، أن الحجم العالمي لعمليات تصدير الأسلحة زاد حوالي 8% خلال الفترة 2014 ــ 2018 مقارنة بالفترة 2013-2009 واستحوذت الولايات المتحدة على 36% من مبيعات الأسلحة العالمية خلال هذه الفترة، مقابل 30% خلال الفترة من2009 ــ 2013.
وذكر (سيبري) أن الولايات المتحدة باعت أسلحة إلى ما لا يقل عن 98 دولة، أكثر بكثير من أي مورد رئيسي آخر، وتضمنت (أسلحة متقدمة مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ قصيرة المدى والصواريخ الباليستية وعدد كبير من القنابل الموجهة).
وذهبت أكثر من نصف المبيعات الأميركية إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث حصل النظام السعودي الذي يخوض حرباً في اليمن وبمول ويسلح على جبهات أخرى وحده على 22% من إجمالي المبيعات الأميركية، ما يجعلها السوق الأكثر أهمية بالنسبة لأميركا. وكان النظام السعودي أكبر مستورد للأسلحة في العالم خلال هذه الفترة، حيث استحوذت على 12% من الواردات العالمية.
ووفقا لـ (سيبري) فقد تضاعفت صادرات السلاح إلى منطقة الشرق الأوسط تقريبا خلال الفترة 2009ــ2013 و2014 ــ 2018 وكانت مصر والإمارات العربية المتحدة والعراق من بين المستوردين الإقليميين الكبار الآخرين.
وصدَّرت روسيا، ثاني أكبر دولة مصدرة للسلاح في العالم، خمس صادرات الأسلحة العالمية، وباعت أسلحة إلى 48 دولة، وفقاً لمعهد (سيبري).
واحتلت الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا والصين المراكز الخمسة الأولى، بإجمالي 75% من صادرات الأسلحة العالمية، واستأثرت كل من السعودية والهند ومصر وأستراليا والجزائر، بنحو ثلث صادرات العالم من الأسلحة.
وبالرغم من احتفاظ واشنطن بنحو ثلث حجم تجارة السلاح عالمياً، فإن الشركات الأميركية لا تعول على السوق الدولية قدر اعتمادها على البنتاغون الذي أنفق أكثر من نصف موازنته 2016 ـ 2017 على صفقات وبرامج تطوير أسلحة مع تلك الشركات، نحو 300 مليار دولار، وخصوصا في ظل ارتفاع أسعار منتجاتها مقارنة بنظيراتها الصينية والروسية، ما يعني اعتماد مبيعاتها الدولية على نشاط الخارجية والبيت الأبيض.
إلا أن تلك المبيعات الخارجية، وإن لم تعنِ الكثير للشركات الأميركية، خلاف ما تروج له إدارة الرئيس دونالد ترامب، فإنها تشكل حجر الزاوية في مساعي واشنطن الحفاظ على هيمنتها الاستراتيجية والمالية، في عالم يتسارع فيه تشكّل تحالفات تهدد نظام القطب الواحد.
ومن الناحية الاستراتيجية، تتهم عدة دول أهمها الصين وروسيا، واشنطن بتبني سياسات الحرب الباردة، من خلال فرض عقوبات اقتصادية تهدف إلى عزل عدد من الدول، وإشعال سباق تسلح في عدة بؤر توتر حول العالم، وخصوصا تلك التي تشكل مصادر لموارد الطاقة، وطرقاً لتصديرها إلى الصين، لتحجيم الأخيرة استراتيجياً.
وفي هذا الإطار، فإن عمل واشنطن على فتح أسواق جديدة للسلاح، ودفع حكومات لمضاعفة إنفاقها العسكري، يسيل لعاب كبرى الدول المنتجة، ويجترها لخوض المنافسة، والتورط في المشاركة بالنفخ في جحيم تلك الأزمات، الأمر الذي يبدو أن دولاً أوروبية بدأت تتيقظ له.
في حين أن صادرات فرنسا تراجعت خلال الفترة المشار إليها سابقا بنحو 5 %، وهي التي تعد أكبر مصدر للسلاح على مستوى أوروبا، والخامسة دولياً، بحسب معهد (ستوكهولم).
وبالرغم من تسجيل الصين أكبر زيادة في تصدير السلاح عالمياً بواقع 74 %، إلا أنها تركزت في 3 دول إقليمية، هي باكستان وبنغلادش وميانمار، أي أنها تأتي في إطار صراعها الإقليمي مع الهند، أكبر مستورد للسلاح في العالم، والتي بدأت الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي، في السنوات الخمس الأخيرة، بمزاحمة روسيا، وبشكل متسارع ولافت، في مشتريات تسليحها الهائلة.
من جانب آخر، فإن الأزمات التي تخلقها واشنطن، وتسعى في سياقها إلى إشعال حركة استيراد وتصدير السلاح في العالم، تحمل أبعاداً اقتصادية تتعلق بالحفاظ على الهيمنة على المنظومة المالية الدولية، كما يشير تقرير لمجلة (ستراتيجك كالتشر) الأميركية، فالدولار الأميركي بدأ يواجه تحديات حقيقية، تتمثل بسعي الصين وروسيا وغيرهما من دول العالم إلى الاستغناء عنه في تبادلاتها التجارية، وزيادة أهمية عملاتها المحلية دولياً، وإعادة ربط الذهب والنفط، وإنهاء ارتباط الأخير بالدولار، الأمر الذي سينعكس سلباً على العملة الأميركية، و(وول ستريت) كمركز مالي عالمي، للولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، تتخذ واشنطن سياسات صارمة تجاه بكين، مستغلة أزمات بحر الصين الجنوبي وكوريا الديمقراطية، التي تُتهم الإدارة الأميركية بالسعي إلى تأجيجها لا حلها، وعرقلة وصول موارد الطاقة إلى الصين، والمنتجات منها إلى الأسواق العالمية، وفرض عقوبات على دول تشكل أسواقاً مهمة لها، مثل كوريا الديمقراطة وإيران وروسيا، خصوصا في الوقت الذي تواجه فيه الأخيرة أزمات سياسية وعسكرية، جراء الحرب على سورية والأزمة في أوكرانيا (التي أججتها سياسات واشنطن أيضاً)، وأخرى اقتصادية جراء تذبذب أسعار النفط نتيجة ما يحدث في الخليج من توترات وتهديدات أميركية بإشعال حرب.
وفي ظل مواجهة أميركا أزمة تراكم الديون الحكومية، وعجزاً في الموازنة الفدرالية والميزان التجاري، فإنها تحتاج إلى المزيد من القروض، ولكن بفوائد منخفضة وآجال سداد بعيدة، الأمر الذي يتطلب في المقابل خلق حاجة (وجودية) لدول غنية حول العالم بربط مصيرها بالتحالف الاقتصادي والعسكري مع واشنطن، وهنا يتكرر الحديث مجدداً عن خلق أزمات سياسية وعسكرية وأمنية دولية.
وكما ذكرنا تعمل واشنطن على خط العقوبات بهدف تحجيم القوى التي يمكن أن تنافسها في المستقبل، اقتصادياً أو استراتيجياً، فيما يتكفل جشع الدول الغربية وبعض الدول الأخرى، لجني بعض الأموال من تلك الأزمات، بالتغطية على الممارسات الأميركية المدمرة، وهو ما قد يؤدي في المحصلة إلى هيمنة واشنطن وتفوقها لعقود قادمة ما لم تحدث تحالفات دولية كبرى تعيدها للوراء قليلاً.
عبد الحليم سعود

 

التاريخ: السبت31-8-2019
رقم العدد : 17061

 

آخر الأخبار
هموم بحاجة لحلول في اجتماع الأسرة الزراعية بدمشق وزير الخارجية يبحث مع نظيره الألماني هاتفياً تعزيز العلاقات الثنائية بحث لقياس قوة العمل والبطالة في درعا السفارة الأميركية: دعم واشنطن لعودة السوريين من مخيم الهول خطوة نحو إنهاء أزمة النزوح "القاضي"..مستشار أول لشؤون السياسات الاقتصادية واقع الصحة النفسية والدعم الاجتماعي في شمال سوريا مفوضية اللاجئين تتوقع عودة 1,5 مليون سوري بحلول نهاية 2025 إنتاج حليب النوق تجربة فريدة.. هل تنجح في سوريا؟ خطة طوارىء من حليب النوق إلى جبن الموزاريلا... دراسات تطبيقية تربط العلم بالإنتاج ضمن إعادة هيكلة المؤسسات..  رؤساء دوائر "بصحة " حمص ومزاجية في ترشيح الأسماء الفائضة.. إعادة توزيعهم... الدرويش لـ"الثورة" : عدم توفر البيانات يعيق التخطيط للتحول الطاقي  بمشاركة 182 طالباً وطالبة انطلاق الأولمبياد الجامعي الأول في البيولوجيا   لبنان: الموافقة على خطة عودة النازحين السوريين مدير تربية القنيطرة : تحقيق العدالة والشفافية في المراكز الامتحانية 120468 متقدماً للامتحانات في ريف دمشق موزعين على 605 مراكز سوريا و"حظر الكيميائية" تبحثان سبل التعاون بما يخدم الالتزامات المشتركة  "الأوروبي" يرحب بتشكيل اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب في سوريا الهاتف المحمول في قبضة الأطفال صيفًا.. راحة مؤقتة بثمن باهظ تداول العملات الرقمية في سوريا نشاط غير قانوني... وتحذير من الاحتيال