مشكلات إبستيمولوجية وقفة مع أفكار جون لوك

 

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :

يُعتبر جون لوك (1634-1704) أحد أهم مفكري التنوير وعُرف بـ «أبو الليبرالية». هو فيلسوف وفيزيائي إنجليزي، نظريته في الذهن جسدت أصل التصورات الحديثة للهوية والذات. رسالة جون لوك (رسالة تتعلق بالفهم الإنساني، 1689) والتي جاءت في أربعة كتب تمثل فلسفة منهجية مفصلة للذهن والفكر. هذه الرسالة هي أول دفاع كبير عن التجريبية الحديثة، وتهتم بتقرير حدود الفهم الإنساني في نطاق واسع من المواضيع. إنها تخبرنا بالتفصيل حول ما يمكن أن يدّعي المرء معرفته وما لا يمكن.
مشروع لوك كان الوصول إلى حدود للفهم الإنساني. قبل لوك حاول الفلاسفة ذلك، لكن لوك نفذ هذه الخطة بتفصيل أكثر. في الكتب الأربعة للرسالة ينظر لوك في مصادر وطبيعة المعرفة الإنسانية. الرسالة تصارع أسئلة أساسية حول الكيفية التي نفكر ونتصور بها وأيضاً الكيفية التي نعبّر بها عن أنفسنا من خلال اللغة والمنطق والممارسات الدينية. في مقدمة الرسالة والتي جاءت تحت عنوان The Epistle to the Reader، يصف لوك الكيفية التي أصبح بها منخرطاً في التفكير الفلسفي وبطريقته آنذاك. هو يعرض قصة قصيرة ساخرة حول محادثة مع أصدقاء له جعلوه يدرك أن الإنسان يعاني عادة أثناء سعيه للمعرفة، بسبب فشله في تقرير حدود فهمه.
رفض الأفكار القبلية
في الكتاب الأول يطرح لوك ثلاثة أهداف لخطته الفلسفية، ليكتشف من أين تأتي أفكارنا، وليمحص ماذا يعني امتلاكنا لهذه الأفكار وما هي الفكرة الأساسية، وليفحص قضايا الإيمان والرأي، لكي نقرر كيف يجب علينا التحرك منطقياً عندما تكون معرفتنا محدودة. في هذا الكتاب يهاجم لوك المدارس الفلسفية السابقة مثل أفلاطون وديكارت التي أكّدت على الإيمان بالمعرفة القبلية الفطرية. هو يبدأ بمعارضة الفكرة بأننا جميعنا ولدنا ومعنا معرفة بمبادئ أساسية معينة مثل الإيمان بالمبادئ الفطرية، وهي مبادئ معينة يتفق عليها عالمياً جميع البشر.
يجادل لوك، عكس ذلك، حيث لا وجود لمبادئ مقبولة حقاً من جميع الناس. كذلك، إذا كان هناك بالفعل اتفاق عالمي حول شيء ما، فإن هذا الاتفاق ربما الأفضل أن يتم بطريقة أخرى غير المعرفة الفطرية. يعرض لوك جدالاً آخر ضد المعرفة الفطرية، معلناً أن الكائن البشري لا يمكنه امتلاك أفكار في ذهنه وهو غير واع بها، لذا لا يمكن القول إن الناس يحوزون على المبادئ الأساسية ما لم يتم تعليمهم إياها أو التفكير بها لأنفسهم. ولا تزال هناك حجة أخرى، وهي أنه بسبب أن الناس يختلفون كثيراً في أفكارهم الأخلاقية، فإن المعرفة الأخلاقية يجب ألا تكون فطرية. أخيراً، يواجه لوك نظرية الأفكار الفطرية على ضوء نظرية أفلاطون في الأشكال، ويجادل بأن الأفكار التي توصف عادة بأنها فطرية هي شديدة التعقيد ومربكة لدرجة أنها تحتاج إلى المزيد من الدراسة والفكر لاستيعاب معناها جيداً.
دوافع نقد الأفكار القبلية
في الكتاب الأول لا يتحدث لوك كثيراً عن المؤيدين للمبادئ القبلية الذين يهاجمهم، ولهذا السبب اُتّهم لوك بأنه يهاجم أناساً وهميين أو «رجالاً من قش». جون يولتن (Yolton، 1956) عرض رأياً مقنعاً بأنه كانت في إنجلترا في القرن السابع عشر فكرة واسعة الانتشار، وهي أن الأفكار القبلية والمبادئ الفطرية هي ضرورية للاستقرار وللدين والأخلاق والقانون الطبيعي، ولهذا فإن مهاجمة هذه الأفكار تعني مهاجمة المواقع التي كانت مشغولة آنذاك واستمرت مشغولة بعد نشر رسالة لوك. ولهذا فإن نقد لوك للمبادئ الفطرية ليس فقط نقداً، وإنما له ارتباط هام بمدارس فلسفية وفلاسفة معينين.
يقول لوك إن عقيدة الأفكار الفطرية حالما يتم القبول بها «ستريح الكسول من آلام وعناء البحث»، وأن عقيدة المبادئ الفطرية استعملها الأساتذة والمعلمون لينالوا السيطرة اللاشرعية على عقول طلابهم. كان في ذهن لوك اتجاه الأرسطيين والمدرسيين في الجامعات(1). ولهذا فإن هجوم لوك على المبادئ الفطرية مرتبط بمعارضته للسلطوية. إنها تعبير عن رؤيته لأهمية التحقيق الحر والمستقل في البحث عن الحقيقة، فهذا حسب لوك هو أفضل طريق للمعرفة والسعادة.
نقد فكرة الجوهر
بعد أن رفض لوك إمكانية المعرفة الفطرية، يبدأ في الكتاب الثاني ببيان من أين تأتي المعرفة. هو يقترح أن المعرفة تتشكل إما من أفكار بسيطة أو معقدة. الأفكار البسيطة تتحد بطرق مختلفة لتشكل أفكاراً معقدة، ولذلك، فإن الوحدات الأساسية للمعرفة، هي الأفكار البسيطة التي تأتي حصراً من خلال التجربة. هناك نوعان من التجربة يسمحان للفكرة البسيطة لتتكوّن في الذهن الإنساني وهما الإحساس sensation وفيه يتحسس الذهن العالم الموجود خارج الجسم من خلال الحواس الخمسة، والنوع الثاني التفكير reflection وفيه يرتد الذهن إلى الداخل مميزاً أفكاراً حول وظائفه الخاصة مثل التفكير والرغبة والاعتقاد والشك.
يجادل لوك أن جميع العلوم باستثناء الرياضيات والأخلاق، وجميع تجاربنا اليومية، هي عرضة للرأي أو الحكم. أحكامنا نؤسسها على التشابه بين الافتراضات من تجاربنا وتجارب الآخرين.
في الكتاب الثاني يجادل لوك ضد فكرة الجواهر essences، وهو المفهوم الذي نال قبولاً واسعاً منذ أيام أفلاطون. رأى أفلاطون أننا نستطيع فقط تمييز الأفراد كأعضاء من المخلوقات، لأننا واعون بجوهر تلك المخلوقات – على سبيل المثال إننا نميز شجرة معينة كشجرة، لأننا نفهم ما هي الشجرة في جوهرها. لوك يرى أن الجوهر غير موجود حقاً ككينونة مثالية، وهو ليس أكثر من تجريد. الأفكار العامة نكوّنها حول الأشياء التي نلاحظها، والتي توجد حقاً في العالم. الكائن البشري يقرر أي الاختلافات والتشابهات يستعمل ليفصل ويصنف أشياء معينة إلى أصناف – هو يختار كيف يعرّف الأصناف بدلاً من اكتشاف جوهر مخلوقات معينة.
ورغم أن لوك انتقد فقط المفهوم التقليدي للجوهر، هو قرر تبنّي المفهوم في فلسفته الخاصة ثم الانتقال إلى التمييز بين الجوهر الحقيقي والجوهر الاسمي. الجوهر الاسمي هو مجموعة معينة من الخصائص المشاهدة نخلق منها أفكاراً عامة مطلقة. فمثلاً، نحن نلاحظ التشابه بين عدة كلاب مختلفة، ومن هذه المشاهدات نكوّن فكرتنا عن ماهية الكلب. أما الجوهر الحقيقي فهو بناء غير مرئي وترتيبات من الخلايا والذرات التي تسمح لتلك الخصائص الملاحظة لتكون ملاحظة في المقام الأول. فمثلاً، لنعود إلى حالة الكلاب، إذا كنا نستطيع أن نفهم تماماً التراكيب البيولوجية والعمليات التي تجعل من الكلب كلباً، سواء تلك التي تتضمن DNA أو الأشياء الأخرى أيضاً، عندئذ سنفهم الجوهر الحقيقي للكلاب. على خلاف الجوهر الاسمي، الجوهر الحقيقي له أساس في الواقع.
مشكلة اللغة
في الكتاب الثالث ينتقل لوك للنقاش حول اللغة مشيراً إلى الضعف الطبيعي والإساءات العامة للّغة. يرى لوك أن الكلمات ترمز إلى الأفكار، وهو يميز الكلمات طبقاً لأصناف من الأفكار التي عرضها في الكتاب الثاني. المشكلة الكبرى في الكلمات هي أنها لا تعني مباشرة وبشكل واضح نفس الشيء لكل الناس. هذه المشكلة لها أربعة اسباب رئيسية:
1- الكلمة قد تتضمن فكرة معقدة جداً.
2- الأفكار التي ترمز إليها الكلمات قد لا يكون لها معيار ثابت في أي مكان في الطبيعة لكي نحكم عليها بالضد.
3- المعيار الذي تشير إليه الأفكار قد لا يمكن معرفته بسهولة.
4- معنى الكلمة وطبيعة الشيء الذي تشير إليه الكلمة قد لا يكونان بالضبط ذات الشيء.
لوك أيضاً يحدد ست إساءات عامة للّغة:
1-الناس عادة يستعملون كلمات بدون معرفة ما تعنيه حقاً.
2- هم يستعملون كلمات بلا انسجام.

3- الناس ولأغراض معينة يجعلون العبارة غامضة، من خلال استخدام كلمات قديمة لاستعمالات جديدة غير مألوفة، أو عبر إدخال عبارات جديدة من دون إعطاء تعريف لها.
4- هم يعتقدون خطأ أن الكلمات تشير إلى أشياء بدلاً من أفكار.
5- الناس يحاولون استعمال كلمات بشكل غير صحيح لكي يغيّروا معناها.
6-الناس يفترضون أن الآخرين يفهمون ما يقال لهم، بينما القائلون هم في الحقيقة غير واضحين.
يقترح لوك أربعة علاجات لمواجهة النواقص الطبيعية وإساءات اللغة:
1- لا تستخدم أبداً كلمات من دون أن تكون لديك فكرة واضحة عما تعنيه.
2- حاول تمييز نفس المعنى للكلمات مثلما يفعل الآخرون، لكي تستطيع الاتصال باستخدام مفردات مألوفة.
3- إذا كان هناك احتمال في أن معاني كلماتك ستكون غير واضحة، عليك أن تقوم بتعريفها.
4-استعمل دائماً كلماتك بانسجام وثبات.
نقد فكرة التصنيف
إحدى القضايا المركزية في الكتاب الثالث هي مسألة التصنيف classification. ما هو الأساس في تقسيم الأشياء إلى أنواع، ثم تنظيم هذه الأنواع في نظام من المخلوقات؟ وفق التقاليد الأرسطية التي يرفضها لوك، فإن الخصائص الضرورية هي تلك الخصائص التي يجب أن يمتلكها الفرد لكي يوجد ويستمر في الوجود. هذا يتعارض مع الخصائص العرضية التي يمكن أن يحصل عليها الفرد ويفقدها مع بقائه مستمراً في الوجود. هدف العلم الأرسطي هو اكتشاف جوهر الأنواع الطبيعية. الأنواع يمكن أن تنظّم تراتبياً في نظام تصنيفي للمخلوقات. هذا التصنيف للعالم بواسطة أنواع طبيعية، سيكون متميزاً ومفضلاً، لأنه وحده يتطابق مع تركيب العالم. لوك يرفض هذا التصنيف الأحادي للأشياء في الطبيعة الذي يجب اكتشافه من جانب فلاسفة الطبيعة. هو يؤمن بأن هناك العديد من الطرق الممكنة لتصنيف العالم كل واحد منها قد يكون مفيداً اعتماداً على الغرض المنشود. هو يرى أن لا وجود لحدود ثابتة في الطبيعة ينبغي اكتشافها.
أما في الكتاب الرابع فيعالج لوك طبيعة المعرفة ذاتها، متسائلاً عن ماهية المعرفة وفي أي مجال نستطيع الحصول عليها. يرى لوك أن المعرفة هي ما يستطيع الذهن تصوره من خلال توضيح الارتباط أو عدم الارتباط بين اثنين أو أكثر من أفكارنا. بما أن المعرفة هي فقط حول العلاقات بين الأفكار التي هي في الذهن، فإن المعرفة التي نحن قادرين عليها، هي في الحقيقة ليست معرفة عن العالم ذاته.
يميز لوك بين ثلاث درجات من المعرفة: البداهة، عندما نحن نتصور مباشرة الاتفاق أو عدم الاتفاق لحظة فهم الأفكار، والإثبات demonstration والذي يتطلب نوعاً من البرهان، والمعرفة الحسية، والتي هي حول وجود العالم الخارجي والتي تصف العالم تماماً كما نتصوره.
نقد و تحليل
استطاع جون لوك أن يحوّل تركيز الفلسفة في القرن السابع عشر من الميتافيزيقا إلى أكثر المشاكل أساسية في الإبستيمولوجي، وهي المشاكل المتعلقة بالكيفية التي يكون فيها الناس قادرين على اكتساب المعرفة والفهم. يعالج لوك مختلف مظاهر الفهم الإنساني ووظائف الذهن. إبداعه الملفت يتعلق برفضه فكرة المعرفة الفطرية. يؤكد لوك أننا ولدنا بصفحة بيضاء، وأننا نستطيع معرفة أن الأشياء موجودة فقط عندما نمارسها أولاً. إن النموذج المعرفي الذي يقترحه لوك لا يخلو من العيوب. في تأكيده على ضرورة التجربة كشرط مسبق للمعرفة، يقلل لوك من دور الذهن ولا يعالج بما يكفي لتوضيح الكيفية التي توجد بها المعرفة وتُحفظ في الذهن – بكلمة أخرى، كيف نتذكر المعرفة؟ وماذا يحدث لمعرفتنا عندما لا نفكر حولها وتكون مؤقتة خارج وعينا؟ هو لم يوضح لنا كيف يعمل الذهن في تحويل التجارب إلى معرفة وضم تجارب معينة مع معرفة أخرى، لكي يصنف ويفسر معلومات المستقبل.
نقاش لوك حول الجوهر ربما مربك وملتبس، لأن لوك ذاته غير مقتنع بوجود الجوهر. لوك ربما اختار هذا المفهوم لعدة أسباب:
1- هو يظن أن فكرة الجوهر ضرورية لخلق معنى للغة.
2- مفهوم الجوهر يحل مشكلة الاستمرارية من خلال التغيير. أي لو أن شجرة هي فقط مجموعة من الأفكار مثل «طويلة» أو «خضراء» أو «ذات أوراق» ماذا يحدث عندما تكون الشجرة قصيرة أو بلا أوراق؟ هل هذه المجموعة الجديدة من الخصائص تغيّر الجوهر من «شجرة» إلى شيء جديد؟ وفق لوك، الجوهر يستمر أثناء التغيير، يبقى ذاته رغم التغير في خواص الشيء.
3- لوك يبدو اُجبر على القبول بفكرة الجوهر، لكي يوضح ما يوحّد الأفكار التي تحدث في وقت واحد، ليجعلها في شيء واحد متميز عن أي شيء آخر. الجوهر يساعد في توضيح هذه الوحدة، رغم أن لوك ليس واضحاً جداً في كيفية عمل هذا.
المصادر:
‏1- An Essay concerning Human understanding, JohnLocke:SparkNotes philosophy
‏2- The Limits of Human understanding, StranfordEncyclopedia of philosophy
. . . . . .
الهوامش
(1) كان اتجاه المبادئ الفطرية محل تركيز واهتمام فلسفي كبير في فترتين متباعدتين، في كل فترة كان يلمع صيته ثم سرعان ما يخفت وينحسر. في اليونان القديمة لعبت المبادئ الفطرية دوراً هاماً في فلسفة أفلاطون، لكنه استُبعد فيما بعد من النظام الأرسطي الذي هيمن لاحقاً على التفكير الفلسفي. ولكن في القرنين السابع عشر والثامن عشر انتعش الاتجاه مرة أخرى خاصة على يد ديكارت ونظريته في المعرفة، أما لوك فقد شن على الاتجاه هجوماً حاداً ومتواصلاً، وذلك في بداية رسالته المتعلقة بالفهم الإنساني.

 التاريخ: الثلاثاء1-10-2019

رقم العدد : 967

آخر الأخبار
سرقة 5 محولات كهربائية تتسبب بقطع التيار عن أحياء في دير الزور "دا . عش" وضرب أمننا.. التوقيت والهدف الشرع يلتقي ميقاتي: سوريا ستكون على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين إعلاميو اللاذقية لـ"الثورة": نطمح لإعلام صادق وحر.. وأن نكون صوت المواطن من السعودية.. توزيع 700 حصة إغاثية في أم المياذن بدرعا "The Intercept": البحث في وثائق انتهاكات سجون نظام الأسد انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في القنيطرة "UN News": سوريا.. من الظلام إلى النور كي يلتقط اقتصادنا المحاصر أنفاسه.. هل ترفع العقوبات الغربية قريباً؟ إحباط محاولة داعش تفجير مقام السيدة زينب.. مزيد من اليقظة استمرار إزالة التعديات على الأملاك العامة في دمشق القائد الشرع والسيد الشيباني يستقبلان المبعوث الخاص لسلطان سلطنة عمان مهرجان لبراعم يد شعلة درعا مهلة لتسليم السلاح في قرى اللجاة المكتب القنصلي بدرعا يستأنف تصديق الوثائق  جفاف بحيرات وآلاف الآبار العشوائية في درعا.. وفساد النظام البائد السبب "عمّرها" تزين جسر الحرية بدمشق New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق