الملحق الثقافي:نبوغ أسعد:
بدقة وتمعن قرأت مسرحية “حارس المطخ” للأديب سمير مطرود، التي تحكي عن ذلك الشاب الذي يدعى صالح، وعن طفولته البريئة والمسحوقة، التي جعلت منه إنساناً مهزوماً لا يستطيع أن يواجه أي عائق يعترضه في حياته، لعدم توفر القوى والسند اللذين يجعلان الإنسان قوياً، مما جعل صالح يهرب من واقعه إلى الغربة حيث المطخ الأكبر. وبعد هجرة طويلة يعود طبيباً مشهوراً إلى تلك القرية، ليجد أن الزمان والمكان ما زالا على حالهما، وكأنه شيئاً لم يتغير طوال تلك السنين. فيرى صالحاً نفسه في بوتقة الذكريات المؤلمة، حيث كان يعتقد بأنه قد نسي تفاصيلها، وبأن أهالي قريته نسوا أيضاً ابن الخادمة، فتشتعل نار الحقد والألم بداخله على عمه وعلى كل من كان سبباً في قمعه وسحق شخصيته والظلم الذي وقع عليه من قبل أهالي القرية. وحتى حبيبته التي عشقها وأحبها بجنون، لم يكن يجرؤ على الاقتراب منها والاعتراف بحبه لها أمام الناس.
إن ضعفه ولّد بداخله الخوف وعدم البوح، مما دفعه للهروب زمناً طويلاً، تحاصره الذكريات بطريقة هستيرية رغم وجود الجدة التي كانت تدعمه وتدفع به لكي يكون شخصاً قوياً وقادراً على مواجهة مصيره المؤلم، وصورة الأم التي تتعرض للأذى من قبل السرسوقي الذي أصبح والده فيما بعد والذي كرهه قبل أن يرى وجهه.
تجري أحداث المسرحية في مكان واحد، وقد راعى الكاتب بذلك كل مقومات النص المسرحي السردية ودون الخلل بأي بند من بنود المسرحية من الموسيقى التصويرية والأضواء والمرايا والخشب وحتى تناغم أصوات الأجراس المعلقة برقاب الغنم مع صوت الناي. كل هذه الأشياء تظهر للمتلقي بشكل أقرب إلى الواقعية والجمالية رغم بساطة البيئة وضمن زمن ما وفي قرية ما، وكأن الكاتب يريد لصالح أن يعود إلى نفس الزمان والمكان لاستذكار ما جرى ولإطلاق تلك الصرخة في وجه هؤلاء كلهم، ليقول لهم ها أنذا عدت طبيباً قوياً. لست مبالياً بسخافاتكم وترهاتكم ولا عدت أهتم ببطش العم وقوة الآغا. أراد الكاتب أن تكون صرخته وحديثه مع المرايا هي مع العالم برمته لإثبات وجوده، وليصبح جديراً بحواء قمر القرية التي كانت تراه كباقي أفراد الأسرة ابن الخادمة والضعيف أمام جبروت كبار القرية. مع أنها أرادته رجلاً قوياً يقف بوجه الريح ويدافع عن نفسه حتى لو تعرض للأذى. هي لم تكرهه يوماً بل تكره ضعفه أمامهم، إلا أنه فات الأوان، وأصبحت قمر القرية لها حياتها ومع رجل آخر.
يلملم صالحاً ما تبقى من ذكرياته، فيأخذ طقم أسنان جدته والدمية التي كانت تقول عنها والدته بأنها أخيه. يحمل الحقائب وينوي الرحيل. وبذلك نجد أن المسرحية هي عبارة عن حدث يميل إلى الواقعية وأحداثها قد جرت على أرض الواقع في زمن ما. نرى من خلالها أن الإنسان لا يستطيع أن ينسلخ عن بيئته مهما ابتعد عنها وغير من طباعه وشكله، وبأن الذكريات تفرض عليه العودة إلى بوتقة الماضي مهما كان مؤلماً وجارحاً. يعود المكان ليظلم من جديد، وتختفي الأضواء والمرايا، ويختفي شريط الذكريات، فيجد نفسه وحيداً أمام قمر القرية، وكأن الزمان قد توقف هنا.
التاريخ: الثلاثاء1-10-2019
رقم العدد : 967