ثورة اون لاين -سهيلة إسماعيل:
ثمة مفهوم خاطئ يسود في مجتمعنا بخصوص التعليم المهني، تراكم عبر سنوات ليصبح أشبه بعرف، وربما له أسبابه الكثيرة، يرتكز على أن الطلاب الذين يذهبون إلى ثانويات التعليم المهني هم فقط ممن لم ينالوا علامات جيدة في شهادة التعليم الأساسي تؤهلهم لدخول الثانويات العامة، لكن وبعد زيارة لبعض الثانويات المهنية في محافظة حمص، وجدنا طلاباً نالوا مجاميع عالية، مع ذلك اختاروا التعليم المهني، ورغم قلة عددهم فهم يشكلون خرقاً لما هو متعارف عليه. واللافت في موضوع التعليم المهني أن الدول المتطورة توليه أهمية كبرى، لأنه يساهم في تطوير المجتمع من خلال تأهيل الكوادر البشرية المختصة للدخول في سوق العمل، لكن ما يحصل في بلدنا هو نقيض ذلك تماماً، ما يجعلنا نطرح الكثير من الأسئلة الجوهرية حول التعليم المهني في محافظة كبيرة كمحافظة حمص، يحتاج سوقها لكوادر في مختلف الاختصاصات المهنية، وفي مقدمة تلك الأسئلة: هل تم تأسيس بنية تحتية مناسبة للتعليم المهني ليُخرج كادراً مؤهلاً؟ وهل تم تأمين فرص عمل لخريجي الثانويات أو المعاهد المهنية؟.
سنحاول استعراض واقع التعليم المهني في حمص من خلال هذا التحقيق الصحفي علَّنا نلقي حجراً في بحيرة مياهه الراكدة لنحركها..!!
خلال زيارتنا لثانوية الشهيد أيهم راشد ديوب (سليمان الحلبي سابقاً) المهنية، وهي من أقدم الثانويات المهنية في حمص التقينا عدداً من الطلاب:
– محمد فرَّاج طالب من الصف الثاني الثانوي (اختصاص تكييف وتبريد) قال عن سبب اختياره التعليم المهني: صحيح أن مجموعي لم يؤهلني لدخول التعليم العام، لكنني راضٍ عن وضعي في الثانوية لأني سأتعلم مهنة تؤمن لي عملاً في المستقبل، خاصة وأن من لا يحصل على علامات في الثانوية العامة لن يتمكن من دراسة فرع في الجامعة يؤمن له مستقبلاً مضموناً، والوضع في المدرسة جيد، لكن هناك معاناة خاصة بالطلاب القادمين من ريف المحافظة، وهي عدم توافر وسائل نقل بعد الظهر لأن الدوام في الثانوية يستمر أحياناً إلى فترة ما بعد الظهيرة، ونذهب إلى الكراج فلا نجد سرافيس لنعود إلى قرانا.
– جعفر معلا من الصف الثاني الثانوي (اختصاص إلكترون) قال: لا يوجد فرق بين التعليم المهني والعام، ولا سيما إذا التزم الطالب في التعليم المهني وتابع دروسه بشكل جيد، المهم أن يحصل على مجموع جيد في شهادة الثانوية، وعندها هناك العديد من المجالات المفتوحة أمامه.
– الطالب يزن جوهر (اختصاص كهرباء) قال: حصلت على مجموع عالٍ يتيح لي التسجيل في التعليم العام، لكني سجلت في الثانوية المهنية لأن أبي مهندس كهرباء ويعمل في مجال الكهرباء، وأنا أريد أن أتعلم مهنة الكهرباء.
بينما قال الطلاب حامد سليمان وعمار ابراهيم وعدد من الطلاب أنهم سجلوا في الثانوية المهنية لأن مجموعهم في شهادة التعليم الأساسي كان ضعيفاً، ولم يؤهلهم للتسجيل في ثانوية عامة.
أدارة المدرسة
وجهتنا الثانية كانت إلى إدارة الثانوية، حيث تحدث مديرها علاء محسن عن الوضع فيها قائلاً: تعتبر ثانوية الشهيد أيهم ديوب من أقدم الثانويات المهنية في حمص، فقد تأسست منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتطورت تطوراً ملحوظاً سواء من ناحية عدد الاختصاصات الموجودة أم من حيث الكادر التدريسي المؤهل والمعدات اللازمة لتدريب الطلاب في دروس العملي، ويوجد الآن في الثانوية تسعة اختصاصات هي: (تقنيات كهربائية – تقنيات إلكترونية – تقنيات تدفئة وتمديدات – تكييف وتبريد – تصنيع ميكانيكي – لحام وتشكيل معادن- معدات آلات زراعية – ميكاترونكس- ميكانيك وكهرباء المركبات)، والوقت المخصص لدروس العمل أكثر بكثير من الوقت المخصص للدروس النظرية، حيث تُقدر ساعات العملي لكل حرفة بين 18- 20 ساعة في الأسبوع.
أما بخصوص مصير الطلاب بعد حصولهم على شهادة الثانوية المهنية فقال محسن: يسجل الطلاب الثلاثة الأوائل على مستوى المحافظة في الجامعة تسجيلاً مباشراً في الاختصاص الموافق لاختصاصهم في الثانوية، ومن يحصل على معدل فوق الـ 70% بإمكانه أن يسجل في الكليات التقنية، والأقل من 70% يسجلون في المعاهد الصناعية التابعة لوزارة التربية بالإضافة لإمكانية التسجيل في مفاضلة المعاهد التابعة للوزارات الأخرى، وذلك حسب المقاعد المخصصة لخريجي الثانويات المهنية، ويستطيع الخريجون الجادّون الدخول إلى سوق العمل لأن الثانوية تتيح لهم تعلم حرفة بشكل جيد.
وعن المنهاج الدراسي أشار محسن إلى أن المنهاج الجديد يتماشى مع حاجة السوق، ومن هذا المبدأ تم إدخال اختصاصات جديدة كالميكاترونكس الذي أُحدث عام 2011.
ثغرات ومعوقات العملية التدريسية
كما أشار محسن إلى أن العمر الزمني للثانوية أثر على بنيتها الهيكلية، فالأبواب مخلوعة والنوافذ مخلوعة ومكسرة أيضاً، كما أن تمديدات الصرف الصحي بحاجة للصيانة. وسور المدرسة منخفض ما يجعل الطلاب يهربون عندما يحلو لهم (عددهم حالياً في الثانوية أكثر من 1600 طالب) ما يجعل عملية ضبطهم عملية صعبة، وفي الثانوية كادر تدريسي مؤهل ومدرب، لكن اللافت وجود عدد من المدرِّسات في مهن تحتاج لمدرسين، وعن غياب الطلاب المتكرر قال: يتغيب الطلاب الذين يعملون في المقاهي والمطاعم، إما لمساعدة أهلهم أو لتأمين مصروفهم الشخصي، أي أن غيابهم بسبب الظروف المادية الصعبة، ولكي يجعلوا غيابهم شرعياً يحضرون تقارير طبية وهمية…!! بالإضافة لإهمال الأهل في بعض الحالات. كما أن عدم توافر وسائل النقل بين ريف المحافظة والمدينة واستمراره حتى ساعات ما بعد الظهيرة يجعل الطلاب يتغيبون كثيراً عن بعض الدروس المهمة، وخاصة طلاب الريف الشرقي الجنوبي والريف الغربي البعيدين عن المدينة. واعتبر محسن أن بعض الاختصاصات في ثانويات المدينة لا حاجة لها ويجب أن تكون خاصة بمدارس الريف (معدات الآلات الزراعية) إلا إذا أضيف إليه ميكانيك الآلات الزراعية.
مثال من الواقع
كما التقينا خلال وجودنا في الثانوية بالمدرس عبد الكريم ابراهيم (مدرس في قسم الإلكترون) الذي أكد أنهم في الثانوية شاركوا في معرض دمشق الدولي، بعرض صناعة الحنجرة الخارجية التي تستخدم من قبل المرضى الذين يستأصلون حناجرهم، وكذلك بصنع براد بتكلفة منخفضة، بلغت 160 ألف ل.س بينما يُباع النوع نفسه بـ 600 ألف ليرة سورية وهو يضاهي جودة براد الحافظ. وختم ابراهيم حديثه قائلاً إن سورية بأكملها يمكن أن تتحول إلى أقوى بلد صناعي في العالم من خلال الاهتمام بالتعليم المهني في حال توافر المواد الأولية، وأي حرفة يمكن أن تلبي حاجة المدينة بصناعات كثيرة وبتكلفة قليلة ومنافسة للسوق.
لأنها في الريف
سنكتشف الفرق الشاسع إذا قارنا وضع الثانويات المهنية في المدينة بمثيلتها في الريف، وكأن قدر طلاب الريف أن يُحرموا من دراسة بعض الاختصاصات، وأن تعاني تلك الثانويات من نقص ما هو ضروري للعملية التدريسية، لا لسبب إلا لأنها في الريف. والدليل على كلامنا أن ثانوية القبو المهنية (40 كم غرب حمص) وحسب ما عرفنا من مديرتها أمل الياس هي لطالبات الفنون النسوية وطلاب المهني (388 طالبا وطالبة) تضم أربع حرف فقط هي: فنون نسوية – تبريد وتكييف – تقنيات حاسوب – تقنيات كهربائية، ولا يتوقف الأمر هنا فالثانوية تعاني من نقص في الكادر التدريسي وخاصة لقسم تقنيات الحاسوب، بالإضافة إلى أن التربية لا تدفع أجور نقل المعدات وأجهزة الحاسوب للمخابر. والأمر نفسه بالنسبة لنقل الكتب.
بالأرقام
محطتنا الأخيرة عند مدير التعليم المهني في مديرية تربية حمص محمد عبود الذي زودنا بإحصائية خاصة بعدد الثانويات المهنية الصناعية والتجارية والمعاهد المهنية الموازية لها في محافظة حمص وعدد الطلاب والاختصاصات الموجودة، حيث يوجد في مدينة حمص خمس ثانويات مهنية صناعية وخمس ثانويات في الريف، وثانويتان مهنيتان تجاريتان في الريف، وثلاث في المدينة، أما الثانويات المهنية النسوية فيوجد ثلاث في المدينة فقط ولا يوجد أي ثانوية في الريف، وعدد الثانويات المهنية المشتركة (تجارية ونسوية) اثنتان في الريف واثنتان في المدينة، وخمس ثانويات عامة نسوي في المدينة، ولا واحدة في الريف، وثماني ثانويات مهنية صناعية ونسوية في الريف واثنتان في المدينة، وثانوية مهنية صناعية تجارية نسوية في المدينة وأخرى في الريف، وثانوية عامة تجارية ونسوية في الريف ولا واحدة في المدينة وثلاث ثانويات تجارية عامة في الريف فقط، فيكون المجموع في الريف والمدينة ثلاثا وأربعين ثانوية وخمسة معاهد صناعية في المدينة ومجموع الطلاب في الثانويات للعام الدراسي الحالي 8265 طالباً وطالبة، أما عدد الطلاب في المعاهد فهو 1035 طالباً وطالبة، وتتنوع الاختصاصات في الثانويات والمعاهد فقد بلغ عددها 19 اختصاصاً متنوعا في الثانويات، و13 اختصاصاً في المعاهد التقانية، وعن أهمية التعليم المهني قال عبود: للتعليم المهني أهمية كبيرة لأنه يسهم في رفد السوق المحلية بكوادر بشرية مؤهلة يحتاج إليها، وبالتالي يساهم في تطوير الصناعة والاقتصاد والتجارة. لكن (والكلام لنا) يبقى مصير خريجي التعليم المهني غامضاً، وخاصة أولئك الذين لا يحصلون على علامات جيدة (بالنسبة للثانويات) فالأوائل فقط هم من يحصلون على مقاعد في الجامعة، ومن يدرسون معاهد ربما يبقون أكثر من عشر سنوات قبل أن يحصلوا على فرصة عمل، إذا لم يتمكنوا من إقامة مشاريع خاصة بهم ويشقوا طريقهم بأنفسهم. وعن تأمين المعدات وأدوات التدريب العملي وتجهيز البنى التحتية للمدارس والمعاهد المهنية قال عبود: نجد صعوبة في الحصول على ميزانيات لتغطية نفقات التعليم المهني، وكل حرفة تحتاج ما يقارب المليوني ليرة وعندما نطلب من المحاسب المختص يكون الجواب أنه لايوجد اعتماد..!!
أخيراً طرحنا سؤالاً عما بدأنا به على مدير التعليم المهني عن المفهوم الخاطئ والنظرة الدونية السائدة في مجتمعنا عن التعليم المهني فرد عبود قائلاً: نحاول عبر وسائل الإعلام تغيير هذه النظرة، وهي خاطئة تماماً، لكنها للأسف موجودة، ويجب عدم التقليل من أهمية التعليم المهني ولا من أهمية الدارسين فيه. وكما تقع المسؤولية علينا، يتحمل المجتمع كذلك جزءاً كبيراً من المسؤولية ابتداء من الأسرة والأهل.