هل ترتبط الثقافة بالمثقف ؟
وهل يعيش المثقف واقعنا الحقيقي, أم إنه يبتعد عنه ؟
وهل يخلو وضع المثقف من المشكلات والعيوب ؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ونجدها أمامنا شئنا أم أبينا, ونحن لا نزال نبحث عن أجوبتها في واقع ثقافي حاله ليس على مايرام نظرا لأن مثقفنا غالبا مايعيش واقعا مأزوما, المثقف نفسه غير بريء من أزماته !
فالمثقف اليوم, حاصر نفسه وهدد مسؤولياته الثقافية والأخلاقية في نقل الوعي والمعرفة إلى الجمهور بجعل هذه المسؤوليات حرفة و وظيفة يقوم بها ببرودة الموظف الذي يضع سقفا محددا لأداء عمله في إطار ضيق وحركة محدودة, في حين أن الحقيقة تقتضي منه أن يكون في حال اشتعال دائم, يكتب ويناقش ويحاور دون هوادة وهو بكامل حيويته وإصراره, فوقته وطاقته ملكا لغيره, لأنه الوقود الحي الذي لاينضب, وقد نذر نفسه للدفع بمحيطه الضيق والواسع العام (المجتمع), بالاتجاه الصحيح للحياة.
ولعل من شأن هذا الحال الذي يعيشه في نفسه, أنه يولد في كيانه الإبداع والفاعلية والإيجابية التي تستوعب تناقضات الحياة العامة وتجد لديه الحلول لمفارقاتها وصخبها, نظرا لكفاءته ومرونته وصدقيته وحماسته التي تظهر لديه دوما التميز والفرادة.
النخب المغلقة
لكنه – أي المثقف – هو ذلك الإنسان الملتزم بوجوده الحي في مجتمعه وبين أفراده, لا تفصله عنهم فاصلة.
لأن أخطر ما يواجهه المثقف اليوم هو إحساسه بأنه يرى ما لا يراه غيره ممن يعيشون معه ويحيطون به, فغالبا مايولد لديه هذا الإحساس الفوقية والنرجسية, والاعتقاد بأنه قد فهم الواقع وعرف هموم المجتمع من دون الضرورة لمعايشتهم والاختلاط بهم, وهو مايكرس خطورة الحال الذي تعيشها الثقافة والمثقف معا غالب الأحيان !
إذ تتحول الصناعة الثقافية والخطاب الثقافي إلى حالة مغلقة, وهو مايولد ثقافة النخب, وهي الحالة التي ينأى فيه المثقف عن مجتمعه ليتخاطب مع نده ونظيره بمعزل عن المجتمع وأفراده..
ويقوم المثقفون في هذه الحالة فيما بينهم, بتحليل مشكلات الواقع وتشخيص الحلول لها, لكنهم يتداولونها فيما بينهم، ويتوحدون مع أنفسهم, ويتصالحون مع أفكارهم ورؤاهم, وهم يعتقدون أنهم يعيشون في مجتمعات جاهلة متخلفة فاسدة, وهذا مايدفعهم إلى العزلة والاغتراب والتنحي جانبا, مايفقدهم دورهم ومقومات خطابهم، ويشل قدرتهم وفعلهم الثقافي والأخلاقي ورسالتهم المجتمعية.
هل هي حقيقة ؟
إن شعور المثقف بالتفوق أمر يصعب التنبه والاحتراز منه, فكون المثقف يرى ما لايراه غيره أمر لا شك فيه ولكن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تبعد المثقف عن أناسه أو تعزله عن محيطه, ولا يجب أن لا تحرمه من الناس, لأنهم غذاء فكرته ورسالته، بل لا بد من إجراء سبر دائم و متجدد للواقع والقيام بدراسته وفهم البيانات والعينات فيه عن طريق معايشته الفعلية مع أفراده والتحاور معهم, والحوار مع الناس العاديين لأنهم أصل الرسالة الثقافية وغايتها.
والحقيقة أن مثقفنا لم يكن حاله في الأمس كما هو عليه اليوم, ما يجعلنا نعتقد بأن مشكلة الرسالة المعرفية وهمومها ترتبط بالمثقف نفسه أكثر من ارتباطها بالمجتمع !!
ففي مراجعة لشأن المثقف لقرن مضى سنلاحظ كيف كانت أهمية النخب الثقافية وتأثيراتها في الشارع والمجتمع, لاسيما الأساتذة وطلبة الجامعات والمعاهد والكتاب والأدباء وغيرهم, الذين التصقوا بالناس, وكانوا المرجعيات الحقيقية لهم, لقد أثروا وتأثروا بهم, لأنهم عاشوا معاناتهم اليومية, أما اليوم فقد اختلفت الأوضاع على نحو مريب, فقد تراجع فعل المثقف في محيطه القريب والبعيد, وانشغل المثقف بقضايا غير قضيته, وانغمس بالسياسة وشؤونها, فضيع رسالته وأهدافها, وضيع المستهدف الحقيقي منها, وتشوش دوره في المجتمع, إذا لم نقل أنه فقد صدقيته ومصداقيته فيه.
تشويش
والحقيقة الأليمة, أن وظيفة الثقافة الشعبية تراجعت إلى أدنى مستوياتها, بدليل هذه الظواهر المبتذلة التي نعيش إرهاصاتها بكل الألوان في أيامنا هذه !..
فما نراه ونشاهده, من احتفالات التصويت لبعض البرامج التافهة والمسابقات الرخيصة, عبر التلفزيون وأجهزة ووسائل التواصل الاجتماعي, يكشف لنا بوضوح لا لبس فيه أن تنظير الثقافة والمثقفين وآراءهم ونظرياتهم أمست في واد, بينما أصبح معظم الناس في مجتمعاتنا في واد ٱخر..
مؤثرون جدد
لقد أخذ الخطاب الثقافي يفقد زخمه, إذا لم نقل أنه يتهاوى اليوم بفعل معطيات (عصر المعلومات), والثورة التقنية في البث والاتصال, وهو ما أبرز المؤثرين الجدد في الخطاب الثقافي والمعرفي, هؤلاء المؤثرون الذين ولدوا من خارج المؤسسات والدوائر التقليدية للصناعة الثقافية والفكرية والمعرفية, فرجال المال والأعمال نالوا مراكز التأثير اليوم إلى جانب رجال الإعلام، ودور الأزياء ونجوم ونجمات الغناء والطرب و الرياضة الذين احتلوا ساحات الحضور والمتابعة الواسعة التي تفوق بكثير متابعة صناع الفكر والثقافة وحاملي ألوية المعرفة.
ومن المؤسف حقا أن تجد صناع الفكر والثقافة والمعرفة اليوم مازالوا يطرحون أفكارهم ورؤاهم ونظرياتهم وٱمالهم في التجديد والنهضة بالطريقة ذاتها التي سار عليها أسلافهم قبل قرون عديدة, دون الأخذ بالاعتبار المعطيات الجديدة لعالم اليوم المشغول بثورة الاتصال والمعلومات.
عبدالمعين زيتون
التاريخ: الثلاثاء 12-11-2019
الرقم: 17120