حفظ اللحظة

 في حياة كل إنسان صورة راسخة في ذاكرته، تحفظ حدثاً كان له وقعه الاستثنائي. وأعتقد أن من الصور التي يشترك في حفظها جيلنا هي الدقائق الأولى من حرب تشرين (أكتوبر) 1973. ففي ذلك اليوم شاهدنا بأعيننا كيف ترجمت التحضيرات للحرب ذاتها على الأرض منذ أن ُطلب منا مغادرة المدارس قبل انتهاء الدوام، وكيف تحولت المدارس الكبيرة في وقت صغير إلى مستشفيات مجهزة بكل مستلزماتها. وكيف تكدست أكياس الطحين أمام المخابز وكأنها تقول للناس أن لا خوف على خبزكم.
في تلك الأيام، كنا مجموعة طلاب شبان نتواجد في مقر مؤقت، هو أساساً مدرسة ابتدائية، مع عدد ممن هم أكبر سناً منا، وعلى رأس المجموعة الأديب والناقد صميم الشريف (رحمه الله). كان موضوع الحرب – بطبيعة الحال – الموضوع الطاغي على أحاديثنا، أو الوحيد فيها، وقد أغناها عمل الأستاذ الشريف والمونتير العريق الأستاذ زياد معدني في التلفزيون، اللذان اصطحباني مرة إلى مسرح القباني (حيث انتقل أستوديو التلفزيون أثناء الحرب) لأشاهد لقاءً تلفزيونياً مع سلطان باشا الأطرش (قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي) سٌجّل في منزله بالقريا، ولا أستطيع وصف مشاعري في تلك اللحظة التي تداخلت فيها أفكار كثيرة.
كان الصديق زياد معدني أول من يتواجد في المقر، لأنه غالباً ما يسهر على عمله في التلفزيون حتى الفجر، فيستقرب، غالباً، الحضور إليه بدل الذهاب إلى بيته في ذلك الوقت المتأخر. وقد أتاح له ذلك أن يقرأ الصحيفتين اليوميتين (البعث والثورة) فور وصولهما إلى المدرسة قبل الجميع، وأن ينصحنا بقراءة تحقيق أو قصيدة، كما حصل حين نشر الكبير سليمان العيسى (رحمه الله) قصيدته الرائعة (طائرة الاستطلاع). لكننا في تلك الأيام كنا ننتظر بشوق صورة بذاتها، ففي اليوم الأول للحرب أعلن الناطق العسكري السوري أن مجموعة من الوحدات الخاصة قد اقتحمت المرصد الذي أقامه العدو على أعلى قمة في جبل الشيخ. وبقدر ما كان الفعل البطولي يثير خيالاتنا، فإن تلك الصور المتخيلة بقيت بحاجة لصورة حقيقية تؤكدها أو تصححها، وخاصة أن العدو ظل ينكر اقتحام قواتنا للمرصد. وبعد أيام طويلة استقبلنا الصديق زياد معدني بابتسامة صباحية فرحة، وهو يحمل بيده الصحيفة اليومية وقد تصدرت صفحتها الأولى صور رائعة – شكلاً وموضوعاً- لأبطال الجيش العربي السوري وهم يقومون بتطهير المرصد من الجنود الأعداء. وسرعان ما انتشرت هذه الصور على نطاق واسع، داخل سورية وخارجها، حتى أصبحت رمز حرب تشرين.
خلال سنوات عملي الصحفي الطويلة التقيت بعدد من الضباط والجنود الأبطال الذين شاركوا بهذه العملية البطولية الاستثنائية، ورووا لي الكثير من التفاصيل الإنسانية التي تستحق أن تخلَد. ولكني احتجت وقتاً طويلاً لأتعرف على البطل الذي التقط تلك الصور المذهلة، وكان ذلك بمحض المصادفة. ففي عام 2010 كنا في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون نستعد للاحتفال بالعيد الذهبي للتلفزيون، وكان برنامج الاحتفال يتضمن إصدار ألبوم تذكاري مصور عن البدايات، وتنظيم معرضٍ موازٍ. ولم نجد أرشيفاً للصور الفوتوغرافية، فقد ألغيت شعبة التصوير الفوتوغرافي منذ سنوات وتبعثر أرشيفها. اقترح عليّ الأستاذ معن حيدر المدير العام للهيئة الإذاعة والتلفزيون – حينذاك- أن أتصل بالمصور بشير شحرور، لاحتمال أن تكون لديه نسخ من صور البدايات مع أنه لم يكن موجوداً في التلفزيون في سنواته الأولى. ولم يخيب المصور القدير آمالنا الضعيفة، إذ كان يحتفظ بـ(نيجاتيف) صور زملائه التي التقطوها في بدايات العمل التلفزيوني، وكان قد أنقذها، بمبادرة شخصية، بعد أن ألقيت في المهملات. وعلى هذا صدر الألبوم التذكاري المصور بشكل أنيق، ونُظم معرض وثائقي مهم تزين صوره اليوم أروقة وممرات مبنى الهيئة العامة للإذاعة للتلفزيون.
أثناء تحضير الكتاب فوجئت بوجود صور اقتحام المرصد في أرشيف بشير شحرور شريكي في إعداد الألبوم. وعرفت للمرة الأولى أن هو من التقطها، فلم أفرط بفرصة استعادة تلك الذكريات المجيدة التي عاش معها قبل أيام قليلة جمهور الندوة الخاصة التي نظمتها الزميلة العزيزة إلهام سلطان، واستضافها المركز الثقافي العربي في كفرسوسة.
لست بصدد استعادة تلك الذكريات، وإن كنت أرغب بذلك، لكني وجدتها فرصة لتوجيه التحية لكل من ساهم في تنظم الندوة واستضافها. وقبل الجميع وددت توجيه الشكر الحار للمصور البارع بشير شحرور، الذي شارك الجنود الشجعان بطولتهم وإقدامهم وبسالتهم. والذي قام منفرداً بعمل مؤسسة. وحفظ لنا أجمل وأبهى وأقدس ذكرياتنا.

سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 12-11-2019
الرقم: 17120

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة