«مواسم الروح»

 

 

للروح مواسمها من الفرح، كما من الحزن.. والذكريات صندوق مخبأ ينفتح في لحظات، وينغلق في أخرى.. والزمن ممر زجاجي شفاف لك أن تنظر من خلاله الى المسافة التي قطعتها فيه، لكنك لا تملك أن ترى عبره ما بقي لك من مسافة تسيرها قُدماً.. ممر يتحول إلى قفص زجاج يأسرك داخل أبعاده.. فما أضعف وجودنا ونحن لا نملك إلا اتجاهاً واحداً مثل عقارب الساعة نسير فيه في قفص الزمن المغلق علينا في فضاء الكون.
وإذ يجرفنا الشوق، كما الحنين، في مواسم الذكرى لمن غادرنا ورحل عن حياتنا، نتمنى لو أن للكلمات سحابات من مطر تطفئ قطراتها ما اتقد في القلب من حريق الغياب.. ونتمنى لو أن شموساً من ضياء تسطع في أعماقنا فتمسح عتمة الفراق.. لكننا لا نملك شموساً، ولا نجوماً، ولا أقماراً.. وكل ما لدينا هي تلك المسافة المعقودة بين الماضي والحاضر.
وفي موسم من مواسم الروح عندما تعود تلك الذكرى.. نعدُّ الأيام، والأعوام التي تكدست في درب الغياب.. وها أنا أعدُّ منها أعواماً ثمانية من فراق الأديبة (قمر كيلاني)، وأجد نفسي لم يبقَ لي منها سوى: كلمة، وصورة، وذكرى. أما الكلمة فهي تلك التي تركتها لي، كما لغيري فوق صفحاتٍ ناصعة البياض.. وبين أعمال أدبية تميزت بالحرف الجميل، والفكر العميق.
روايات، وقصص، ومقالات حمل أغلبها في بذرته إلى جانب الرصد الاجتماعي، أقول حمل عبء الهمّ القومي، هذا الهمّ الذي لم تنفصل عنه الأديبة حتى آخر ما كتبته.. وحتى آخر نبض قبل أن تنطفئ الشعلة.. وكانت دمشق حاضرة وبقوة مع كل عبارة، وكل حرفٍ، كما الوطن من أدناه الى أقصاه.
ألم تكن رواية (حب وحرب) راصدة لحرب تشرين.. ورواية (الهودج) تروي سيرة المأساة الفلسطينية على امتداد عقودها.. و(حلم على جدران السجون) تجسيداً للمعاناة العربية في سجون الاحتلال الصهيوني، وجوره على مَنْ يطالب بحقه الأبدي؟.. ورواية (الأشباح) ما كانت إلا أطيافاً من زمن قادم، وأشباحاً من زمن احتلالٍ، وقهرٍ ما كان لهما إلا أن يغيبا. و(بستان الكرز) الذي تساقطت حباته عبر الحرب الأهلية في لبنان ألم تكن روايته إنذاراً، وإخباراً، ورؤيةً استشرفت مسار الأحداث، وما ستؤول إليه؟
وليست الرواية فقط هي التي استوعبت ذلك التوجه الوطني والقومي، بل إنها المجموعات القصصية أيضاً.. وبدءاً من المجموعة الأولى (عالم بلا حدود) والتي ضمت قصصاً كانت تستشرف المستقبل الفلسطيني، أو بعبارة أخرى تتنبأ بانتفاضة الأرض المحتلة، مروراً بمجموعة (الصيادون ولعبة الموت) وعنوانها ينبئ بما بين صفحاتها، ووصولاً إلى (المحطة) عنوان آخر مجموعة قصصية رصدت فيها الأديبة محطاتٍ اجتماعية من رحلة الحياة، وتعرضت من خلالها إلى حالات هي من واقع مجتمعنا بل مجتمعاتنا العربية عموماً.
و(سيدة الحزن والصمت) ـ وهو عنوان واحدة من قصصها القصيرة ـ التي كتبت (وجع من ذاكرة الجولان) لم تنسَ مدينتها (دمشق) فكرّست لها على أنها (عاصمة ثقافة أبدية).. عاصمة استوعبت ثقافات، وعواصم، وشعّت، وما تزال على مدى الدهور، كأقدم مدينة مأهولة أزلية لا تغيب شمس حضارتها.
كل تلك الأعمال الأدبية المكتملة بصدور أجزائها الأربعة تحت مسمى (الأعمال الكاملة)، وغيرها مما تناثر من أوراق على صفحات الصحافة هي إرث يحمل نبض كاتبته، وكلمة حق لا تغيب ولو غابت من خطّت السطور.
أديبة رائدة، ومربية لأجيال لم تنسَ منها عبق الحضور رغم الغياب.. تركت بصمتها المميزة داخل وطنها وخارجه، أخلصت له فأخلص لها.
كلمة، وصورة، وذكرى.. فأما الكلمة فهي الباقية.. وأما الصورة فهي ما يحفظه القلب.. وأما الذكرى فهي ما تتكرر كل عام.. ولو انطفأ الجسد فالروح خالدة لا تنطفئ، والذكرى لا تموت.

لينـا كيــلاني

التاريخ: الجمعة 29 – 11-2019
رقم العدد : 17134

 

آخر الأخبار
ريال مدريد يفتتح موسمه بفوز صعب  فرق الدفاع المدني تواصل عمليات إزالة الأنقاض في معرة النعمان محافظ إدلب يستقبل السفير الباكستاني لبحث سبل التعاون المشترك ويزوران مدينة سراقب رياض الصيرفي لـ"الثورة": الماكينة الحكومية بدأت بإصدار قراراتها الداعمة للصناعة "نسر حجري أثري" يرى النور بفضل يقظة أهالي منبج صلاح يُهيمن على جوائز الموسم في إنكلترا شفونتيك تستعيد وصافة التصنيف العالمي الأطفال المختفون في سوريا… ملف عدالة مؤجل ومسؤولية دولية ثقيلة مبنى سياحة دمشق معروض للاستثمار السياحي بطابع تراثي  "السياحة": تحديث قطاع الضيافة وإدخاله ضمن المعايير الدولية الرقمية  فلاشينغ ميدوز (2025).. شكل جديد ومواجهات قوية ستراسبورغ الفرنسي يكتب التاريخ اهتمام تركي كبير لتعزيز العلاقات مع سوريا في مختلف المجالات الساحل السوري.. السياحة في عين الاقتصاد والاستثمار مرحلة جامعية جديدة.. قرارات تلامس هموم الطلاب وتفتح أبواب العدالة تسهيلات للعبور إلى بلدهم.. "لا إذن مسبقاً" للسوريين المقيمين في تركيا مرسوم رئاسي يعفي الكهرباء من 21,5 بالمئة من الرسوم ..وزير المالية: خطوة نوعية لتعزيز تنافسية الصناعي... لقاء سوري ـ إسرائيلي في باريس.. اختبار أول لمسار علني جديد تركيب وصيانة مراكز تحويل كهربائية في القنيطرة زيارة وفد الكونغرس الأميركي إلى دمشق… تحول لافت في مقاربة واشنطن للملف السوري