لعله من الصحيح والصحيح للغاية, أنه يمكن للكاتب أن يعبر عن فكرته بأي مفردات يسوقها في متن نصه، ولكن, هل يتوقف قياس بلاغته على استخدامه المفردات الصعبة أو تلك المفردات التي تسمى الجزلة؟
ولست أدري, أإشكالية هي في لغتنا العربية, أم سعة, أن اللغة العربية غنية, وغنية بلا حدود, بالمفردات والمعاني المتقاربة, وربما لاتضاهيها لغة حية أخرى بين لغات الأرض, حتى أنها استوعبت كل الفنون والإبداعات اللغوية القديمة والحديثة, ومابعد الحديثة، وتستطيع أن تحتوي فنون الحكي, والنصوص العلمية مثلما احتوت النصوص العلمية التي ترجمت عن كل اللغات الحية الأخرى, وإذا ماكان ثمة تقصير في هذا المجال, فسببه ليس عجز العربية, بل عجز الذين اشتغلوا في تعريب العلوم الإنسانية والأساسية والعلمية.
فلغتنا تتمتع بالثراء الكافي, لدرجة أن هذا الثراء الذي هو ميزة وسمة, ولكنه قد يكون مشكلة أيضا !!
ذلك أن فن التعبير, بالحديث أو بالكتابة, هو كلمة و معنى, أي لغة ومحتوى..
وفي عصور التخلف والانحطاط, حين كان الفكر يتجمد, أو يجف, كان من الطبيعي لهذه الحالة, أن يتبارى الكتاب ويتنافسون في استخدام الكلمات الغريبة الصعبة والمهجورة ليثبتوا تمكنهم من ناصية اللغة, فهم وقد وقفوا عند حدود الكلمة, صارت الكلمة بحد ذاتها قضيتهم وشغلهم.
وفي عصور النهضة.. تأخذ الفصاحة بعدا آخر, لأن الفصاحة تعني الفكرة والفكر, والقدرة على التعبير عن هذا الفكر بأيسر وأجمل الكلمات, فثراء اللغة وغناها يتمثل أيضا في السهولة والبساطة, وفي البساطة هذه, يكمن سحر العربية, لأنها تتجه بذهن المتلقي إلى المعنى, في حين أن التعقيد اللفظي يشتت ذهن المتلقي, هذا إذا لم يخف ويبعد الفكرة عنه.
وفي تاريخنا الأدبي أمثلة شتى.. وبساطة الجاحظ – مثلا – كانت بلاغة لاحدود لها, ففي كتابه البخلاء كم لاحظنا بساطة التقديم, وهو يروي القصة, ويرسم الشخصية وملامحها العامة, بكلمات بسيطة لكنها تنطوي على إعجاز وعبقرية, حتى لكأن الكلمات كانت أشبه بحبات اللؤلؤ وقد أخذت مكانها دون زيادة أو تفريط.
ونحن, وكلما أخذنا بأسباب النهضة, فإننا سنميل أيضا إلى هذه البساطة اللغوية, وهي في الحقيقة بلاغة وجمال, دون الحاجة إلى التقعر، والتكلف بالبحث عن الكلمات والمفردات الصعبة والغريبة.
ربما يتحفظ – البعض – على ماورد هنا, بعضه أو كله, وهذا من حقهم دون شك, ولكن هذا سيدفع بنا للسؤال الأهم: ترى هل اللغة أداة ووسيلة تعبير وتواصل، أم أنها هدف مقصود لذاته؟
ونعتقد أن اللغة هي وسيلة وأداة, وسيلة للتعبير عن شيء ما, ومعيار البلاغة هو القدرة على التعبير من أبسط وأقرب طريق, من دون خلل بالطبع.
هذه التقلبات, لم تحدث لدينا وحسب.. بل ربما تحدث في كل زمان, أو مكان, ومع أي لغة حية غير العربية.
يروي كاتب روسي، أنه ذهب في بدايات نشأته الأدببة, ليعرض على عملاق الأدب الروسي (تولستوي) بعض نصوصه, وكان فيما يبدو يصف مشهد الصباح, وصفا معقدا جزلا, فصاح فيه تولستوي: كفى.. قل «الشمس تشرق, والطيور تغرد!».. ببساطة هكذا.. إلا إذا كان ليس عندك شيء مفيد تريد أن تقوله!.
عبدالمعين محمد زيتون
التاريخ: الخميس 2- 1 -2020
رقم العدد : 17160