الوجود العسكري الأميركي مرفوض ليس في المنطقة بل في أنحاء العالم ، لأنه يشكل عاملاً أساسياً لعدم الاستقرار وليس العكس فأينما كان عمت الفوضى، وهي البيئة المناسبة لعمل أدوات الولايات المتحدة الإرهابية والإجرامية.
المظاهرة المليونية التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد يوم الجمعة الماضية رفضاً للوجود الأميركي يجب أن تكون كافية بالمعيار الديمقراطي الذي تروج له واشنطن و الدول الغربية لسحب القوات الأميركية فوراً من العراق، ولكن هذا المعيار لا قيمة له عندما يرتبط الأمر بالأمن القومي الأميركي حتى لو تظاهر كل الشعب العراقي أو غيره من الشعوب الرافضة للقواعد الأميركية حول العالم .
الولايات المتحدة وحلفاؤها الاستعماريون يبررون الكثير من تدخلاتهم في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بسوق شعارات (حماية الشعوب والمدنيين وحقوق الإنسان ..الخ ) ويستخدمون منصة الأمم المتحدة لإضفاء الشرعية الوهمية على ذلك ، وعندما ترفضهم الشعوب وتطلب منهم المغادرة يظهرون على حقيقتهم متحججين بالاتفاقيات والتعويضات وغيرها من المسوغات التي تتناقض مع كل شعاراتهم الزائفة .
من المعلوم أن واشنطن وحلفاءها عندما يعجزون عن إيجاد الوسيلة السياسية والأممية للتدخل في شؤون دولة أخرى يعملون على إيجاد ظروف ذلك عبر أدوات متعددة منها الإرهاب والعقوبات الاقتصادية ودعم الأطراف المناوئة للسلطة الشرعية خلافاً لكل المعايير الديمقراطية والإنسانية وهو ما حدث في ليبيا وسورية بشكل واضح .
إن الهزائم المتتالية لأدوات رعاة الإرهاب في سورية والعراق مضافاً إليها الرفض الشعبي الواسع والعريض للوجود الأميركي ومشكلات توجه واشنطن لتعويض البديل في المنطقة أنتجا واقعاً جديداً يمهد الطريق أمام الانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة وفي محيطها الإقليمي.
لا شك أن التصريحات المتكررة للرئيس الأميركي دونالد ترامب حول انتفاء دواعي التواجد الأميركي الكبير في المنطقة ليست ترهات للاستهلاك الإعلامي والانتخابي، ولا يمكن أن تكون نابعة من قناعة شخص أو قلة في الإدارة الأميركية ، فهذا النقاش ليس جديداً وما فعله ترامب هو إخراجه إلى العلن .
إن الشيء الذي يحاول صناع السياسة الأميركية إخفاءه غن الشعب الأميركي هو أسباب تنامي هذه القناعة لديهم والتي يمكن تلخيصها بالرفض الواسع للسياسة الأميركية في المنطقة والمخاطر المحدقة بالقوات الأميركية، وهذا الأمر لم يكن ليحدث ويتصاعد لولا صمود سورية وحلفائها في الحرب على الإرهاب و الذي أضعف قدرة واشنطن وحلفائها في فرض أجنداتهم لجعل المنطقة تدور في فلك العدو الإسرائيلي.
من المؤكد إن المظاهرة المليونية في بغداد الداعية لخروج المحتل الأميركي هي استمرار لمسار لا يمكن أن تتجاهله إدارة ترامب، وهذا لا يعني أن القوات الأميركية ستنسحب سريعاً ولكن القبول الأميركي بمناقشة ذلك وطرح الخيارات البديلة مؤشر ضعف واضح يعطي دفعاً كبيراً للقوى السياسية والحكومات للتمسك بخروج القوات الأجنبية من الدول الرافضة لوجودها على الأقل .
في العرف الأميركي والغربي لا قيمة للديمقراطية والحرية حين يحضر “الأمن القومي” الذي تستباح أمامه كل القيم والشعارات ولكن باتت هذه الحجة تواجه تحديات كبيرة في المنطقة و أول تجلياتها الانسحاب الأميركي من شمال سورية و عودة الجيش السوري إليها ودفن قادة البنتاغون لرؤوسهم في الرمال أمام صفعة عين الأسد .
أحمد ضوا
التاريخ: الأحد 26-1-2020
الرقم: 17177