من البدهي أن يخرج من يقول إن هذا السؤال: ساذج ولايجب أن يطرح, فكل إنجاز علمي هو معطى ثقافي بشكل ما, وبالتالي يؤسس ثقافته وأخلاقياته معه, من هنا يحمل السؤال بذور بلاهته, ومع ذلك تم طرح السؤال على المستوى العالمي, وانبرى مفكرون وكتاب وباحثون سياسيون ومفكرون لدراسة الجوانب التي يحملها في طياته, سواء كان سؤالا أم إجابة, وبالتالي فإن الإنسان المرقمن الذي غدا أسير هذه الثورات التقنية لايمكنه الفكاك من أن يكون مؤدلجا بما تفرضه ثقافة الآلة الرقمية التي يتعامل معها.
في الغرب الذي صدّر لنا الإنجازات الرقمية, بدأت الدراسات الثقافية والفكرية والنفسية التي تبحث فيما وراء الاستعمال والتجذر بهذه الثورة الرقمية, وقد صدرت عشرات الكتب المهمة في هذا الإطار ورصدت التحولات الكبرى التي حلت بالإنسان الأوروبي, من الطفولة إلى أعلى مراحل العمر, استطلاعات للرأي ومعاهد خصصت حلقات نقاشية للإجابة على اسئلة كبرى في هذا المجال مثل: ماالذي قدمته الثورة الرقمية للثقافة والابداع, وماذا أضافت على المستوى الاجتماعي, وهل غلب الطابع الاقتصادي والتجاري عليها؟
وثمة أسئلة أخرى كثيرة نتجت في سياق الدراسات التي أجريت, ومن الكتب المهمة في هذا المجال, كتاب (الثورة الرقمية, ثورة ثقافية؟) تأليف ك ريمي ريفيل, ترجمه إلى العربية: سعي بلمبخون, راجعه:الزواوي بغوة, وقد صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام 2018م.
وبغض النظر عن أن الدراسة مجالها الغرب, لكنها في جوانب كثيرة تتقاطع مع ما نطرحه في الشرق من أسئلة حول الثورات الرقمية, وما أدت إليه من نتائج, وربما نتمثل قول المفكر السوري الراحل شاكر مصطفى, من أن العلم جعل منا أنصاف آلهة قبل أن نستحق أن نكون بشرا, وقادتنا الثورات العلمية إلى آفاق مجهولة, وقربتنا من لحظات تهور تكاد تكون كارثية, فما أنجزه العلم سلاح ذو حدين, خطر يتهدد مصير البشرية كلها, إن لم نحسن استعماله, ونعمة كبرى تخلص الإنسان من شقائه, حين يكون بيد خيرة تعرف كيف تستعمله.
والثورة الرقمية وتطبيقاتها ليست خارج السرب أبدا, فهي ربما المرحلة الأخطر في كل ما تم إنجازه, لاسيما أنها أدوات حرب ناعمة فتاكة تدمر بهدوء ودون ضجيج,وآثار تدميرها ليس الجسد, بل العقل واستلابه, حملت معها قيمها وسلوكياتها (الإيجابية والسلبية) ودخلت إلى خلايا كل دماغ من الطفل الرضيع إلى من وصل ما وصل من العمر..
اقتصاد الثقافات
يرى الباحث أن قنوات البث الرقمية خلخلت القطاعات الثقافية التقليدية, وزعزعت منطقها الوظيفي الاعتيادي,,اثرت في طرق توزيع المضامين وفي إعادة تشكيل عميق للمشهد الثقافي,, فهذا العالم الرقمي الذي تتضح معالمه (ترسخت) أمام اعيننا ليس فقط كونه نتاجا للعلاقات الجديدة التي تقوم بين التقنية والمجتمع, أو التفاعل الذي يحدث بين تكنولوجيات الإعلام والتواصل الجديدة, ومستخدميها, ونحن لكوننا, مستخدمين للأنترنت أصبحنا أكثر ارتباطا بشكل متزايد بالموقع والشبكات الاجتماعية التي يجري عبرها تبادل الآراء والتعليقات والملفات وأمور اخرى, من بين تلك التغيرات الكبيرة في الميدان _نجد بالتحديد – عرض المنتجات الثقافية (أفلام, كتب, موسيقا, العاب إلخ..).
التي أصبحت رهن إشارتنا, بمجرد ضغطة زر والتي نستهلكها حاليا بشكل متزايد خلال المواقع على الأنترنت, هكذا يتجلى الرقمي كسوق, حيث تستحق آليات الاشتغال توضيحا للصورة, إذا أردنا فهم نطاق الممارسات الثقافية الجديدة التي ظهرت حديثا, وهذا يوجهنا نحو الحديث عن التحولات الحديثة لاقتصاد الثقافة, ومن ثم وصف الآليات وتحليل الرهانات بدقة.
مرحلة جديدة
وفي سياق الدراسات السريعة التي تقدمها المواقع العربية, نقف عند دراسة تقدم رؤى مهمة, جاءت تحت عنوان: التكنولوجيا والثقافة من يخلق الآخر, نشرها موقع العرب على الشابكة, ترى الدراسة أنه في السابق كانت الكلمة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تشكيل وعي المجتمع، إذا ما توفرت لها القدرة على الانتشار، من خلال الطباعة ثم بناء شبكة واسعة للتوزيع. واليوم لم تختف الكلمة ولم يتراجع تأثيرها، لكنها لم تعد هي المحرك الوحيد لتحديد ملامح الثقافة في المجتمع، وثقافة «البوب كلتشر».
وكان للإنترنت أكبر تأثير لتحديد هذه الثقافة. وتظهر كل يوم فرق موسيقية يذيع صيتها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر موقع يوتيوب لتحمل مقاطع الفيديو. وتحول المدونون، الذين كانت أسماؤهم بالكاد معروفة لدى قطاع ضيق من المهتمين بما يكتبون عنه، إلى كتاب كبار تطاردهم دور النشر لتوقيع عقود كتب جديدة، إلى جانب الكثير من الطموحين الذين يعرضون مواهبهم ويحطمون أرقاما قياسية في عدد المشاهدات يوميا. وفي هذا العالم الرقمي، يبدو أن عدد الجمهور والمتابعين لا نهاية له لكل فكرة جديدة تظهر فجأة، كما أصبحت فكرة التحول إلى «نجم» متاحة للجميع، وقابلة للتحقق.
وتقول سيرينا كوتشينسي، الكاتبة المتخصصة في تأثير مواقع التواصل على حركة المجتمع، إن «التحدي الذي يواجه كل العاملين في مجالات الابتكار والتفكير هو كيف يتم استغلال كل هذه الطاقة المتجددة وتحويلها إلى شيء واقعي؟».
وأضافت «التكنولوجيا» تقدم فرصة لتحسين تفاعل الجمهور ولخلق خدمة عملاء أكثر جودة، كما تستطيع توليد الابتكارات بشكل أسرع، لكنها ستتمكن بالفعل من تحويل المزاج العام في المجتمع إذا ما استطاعت تغيير وسائل إنتاج الثقافة واستهلاكها، وعندما نصبح جميعا مستعدين للتعايش بأريحية مع الحقائق الجديدة وأساليب العمل التي تخلقها التكنولوجيا من أجلنا.
هذه خطوط عريضة في المشهد الرقمي وتاثيره على الثقافة, ولكن الغوص في التفاصيل سيحمل الكثير مما خبأته هذه الثورة التي بدأت معرفية وانتهت استلابية, غايتها عقل الانسان ومشاعره, وكيفية التحكم به وبسلوكه, والسيطرة عليه وتحريكه ليبدو كأنه يقوم بذلك من تلقاء نفسه, مرحلة بدأت منذ أن كان الإنسان على الأرض, وفي تفاصيلها الكثير, فالثورة الرقمية ليست إلا محطة منها, ولاندري ماذا بعدها لكننا نعرف ما قبلها وإلام أدى..
دائرة الثقافة
التاريخ: الثلاثاء 28 – 1 – 2020
رقم العدد : 17179