سليمان الحلبي.. العين والمخرز

 

الملحق الثقافي:نبوغ محمد أسعد:

لم يكن فضولي أقل من فضول ذلك الصبي الذي تحدث عنه الروائي داوود أبو شقرة في بداية روايته ليعرف من هو ذلك الشاب البسيط الذي قتل جندياً فلسطينياً فأحرقوا يده ونكلوا بجثته إلا بفارق بسيط، فأنا قد قرأت هذه الرواية عدة مرات وبألسن كتاب مختلفين، وعندما وقعت عيني على رواية الكاتب داود أبو شقرة داهمني فضول شديد لقراءتها من جديد، وتبعاً لمقدرة الكاتب على مواكبة الحدث خلال سرد الروائي وتحريك العواطف المكنونة لمجريات الحدث تظهر الخبرة النفسية والقدرة على تفعيل الحدث بشكل بنوي شائق، الحدث المشحون بروح النضال والهم الوطني والإنساني المشترك ما بين البلدين الشقيقين سورية ومصر.
وثمة عاطفة معلنة الرفض القاطع لأي نوع من التحكم والسيطرة والإذلال لهذه البلاد التي نمت وترعرعت على حب الكفاح والنضال من أجل الدفاع عن الأرض المقدسة والوقوف في وجه الطامعين الغرب حتى تكون الحالة تفعيلاً للآخر العربي المعني بهمّ تناساه.
ولعل الإلمام والإحاطة بالجوانب النفسية لكافة شخصيات الرواية جعلت القوة الحركية للحدث في البنية التكوينية للسرد تطغى على المكان بما فيه من جماليات وحالات اجتماعية تأخذ بالقارئ إلى أبعاد تفكرية تشده نحو كل تفصيلة وحركة لهذه المجريات. فالرواية التوثيقية التاريخية لا بد أن تعد لذاكرتنا بعضاً مما ترجل فيها بدون قصد، وربما بسبب التراكم الكمي لكثير من هذه الذكريات التي شحذتها الذاكرة على مدى سنوات طوال. ولكن مهما كانت هذه الذكريات مزدحمة فلا نستطيع أن ننسى بطل هذه الرواية الشاب السوري سليمان الحلبي الذي عاش في مصر ثلاث سنوات يتلقى علومه ممن جامع الأزهر الشريف ويتخذ له إبراهيم البشتيلي أخاً وصاحباً يعيش معه في بيت واحد وكأنه أحد أفراد الأسرة، وبما تربط الوالدين من صداقة قوية وقديمة، وعندما ينوي سليمان العودة إلى سورية تبدأ شرارة الحرب النفسية تشعل فتيلها في مصر فيقع سليمان الحلبي في حيرة ما بين عودته وترك هؤلاء الذين احتضنوه وعاملوه كواحد منهم فلم يشعر أنه غريب بينهم، ثم يقرر أن يبقى بينهم ليشاركهم في هذه الحرب التي لم تكن في الحسبان.
الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت بكل جبروته المعروف عنه في بلاد الغرب يهزم تحت إصرار الأبطال الشرفاء والمصريين النبلاء والفلاحين البسطاء الذين يعيشون بالفطرة على الحب والتآلف الاجتماعي وينتصرون على بونابرت وأعوانه المماليك الذين يحكمون في هذه الحقبة بلاد الشرق ومحاولة بسط نفوذهم عليها لتصبح ملكاً لهم. وبكل غرور يخطط للاستيلاء على بلاد الشرق مبتدئاً بمصر ثم يكمل زحفه نجو بلاد الشام وأهلها الذين وقفوا بكل شجاعة وبسالة لينالوا منه ويحرموه دخول الأراضي السورية، فلاقى مصيراً أسود جعله يعود إلى بلاده مذموماً مدحوراً. ويأتي من بعده كليبر الذي أقسم أنه لن يرضى إلا أن تكون بلاد الشرق كلها ملك يمينه وما عجز عنه نابليون سوف يحققه كليبر، وطغى في البلاد قتلاً ودماراً وحرقاً للقرى والحجر والشجر، فتهجر المصريون من بيوتهم وقراهم لكنهم بقوا صامدين مع بعضهم بعضاً في مواقف البطولة والفداء مع السوريين الذين أعدمهم الفرنسيون وهم الشيخ محمد الغزي وعبد الله الغزي وأحمد الوالي وهم من أهم شيوخ الأزهر.
ومن ثم حاصروا سليمان الحلبي الذي قام بطعن الجلنار كليبر داخل أحد القصور المملوكية، فقررت الحكومة الفرنسية بعد محاكمته في أن تحرق يده التي طعن الجلنار ومن ثم خوزقته لمدة أربعة أيام حتى قضى بطلاً مدافعاً عن كل شبر في بلاد الشرق. وفي ذات الحقبة يفجر فيها جول جمال نفسه من أجل الدفاع عن سورية ومصر في هذه الرواية المهمة للكاتب داود وبأحداثها الدموية والمأساوية التي تعرضت لها كل شخوص الرواية من السوريين والمصريين وحتى الفلسطينيين في الأراضي العربية من قهر وظلم واستبداد من بلاد الغرب. لكن الإصرار والصمود والتآلف الوطني والقومي والصبر على المحن جعلهم ينتصرون على هذا العدو المشترك لبلادهم.
يحاول الكاتب أن يجسد ظاهرة الوفاء بصفتها من المثيرات الأساسية في العمل الإبداعي كما أنها تشكل أهم الخصائص المكونة لذاته الموهوبة مع حرصه الشديد على وحدة الموضوع وحرصه الدقيق لعمل تاريخي جعل القارئ أمام حراك إنساني فيه كل مقومات الإنسانية والتي تجاوزت المألوف. وتبقى ظاهرة الوفاء حاضرة داخل الكائن البشري ليؤجج القدرة الباطنية والانفعالية للقارئ محاولاً بذلك شحذ الهمم والعودة للتمسك بالقيم الأخلاقية والنضالية في هذا الوقت الذي نحتاج فيه لكل وقفة عربي أصيل في وجه التآمر على كافة الوطن العربي، فنحن اليوم أمام مسؤولية تحفزنا على حفظ ما تبقى من الكرامة.
يحاول الروائي داود أبو شقرة أن يثير الاستجابات العاطفية التي بدت في عصر ملتزم وكأنها قد أدارت نخوتها عكس الاتجاه في جهد ومعايير لم يكن حجم تعبها بالقليل ومرتكزاً على الوثيقة لصالح شعوب امتد تاريخها العريق قروناً طويلة. ويشير إلى أن التاريخ يوثق الجيد والرديء محاولاً تجذير التجارب النضالية في نفوس الأجيال ووجدانهم بغية بناء المستقبل العربي الذي يخدم مصالحنا. فكونوا على يقين بأن الحق سوف تعلو راياته مهما طال الزمان أو قصر.
وبهذا التضامن الفكري والنضال القومي المشترك سوف ننتصر على أعداء الأمة إذا سلكنا الطريق الذي مشى فيه أبطالنا الشرفاء وأجدادنا الذين وقفوا وقفة عز وفخار واضعين نصب أعينهم أن هذه الأرض ملك لنا ولن نحيد عن ذرة تراب فيها مهما كثر أعداؤها، ومهما تعرضت لتآمر صهيو- أمريكي وغربي، فسوف نبقى شعباً واحداً في السراء والضراء حتى تفنى الأرض وما عليها.

التاريخ: الثلاثاء4-2-2020

رقم العدد : 985

آخر الأخبار
يطيح بتعاميم النظام المخلوع.. محافظ حلب يصدر قراراً يُنصف المفصولين اجتماع أردني- سوري مرتقب في عمّان لتسوية الخلافات المائية The New Arab نصف مليون سوري يعودون منذ التحرير عودة طوعية للاجئين من الدول العربية وتركيا حضارة وادي الزيدي بدرعا.. هل يتم استثمارها سياحياً؟ الأمم المتحدة: رجال الدفاع المدني السوري يخاطرون بحياتهم لإخماد "حرائق اللاذقية" السيطرة على بعض بؤر النيران في ريف اللاذقية "بريكس" ترحب برفع العقوبات عن سوريا وتدعو"إسرائيل" لسحب قواتها رئيس مجلس مدينة القرداحة: نتخذ أقصى الاحتياطات شبكات صرف متهالكة والمناطق المخدمة بمحطات المعالجة لا تتجاوز 40% دور اللاجئين في إعادة الإعمار.. هل تشكل عودتهم عبئاً أم مساهمة؟ وزير الأوقاف يتابع المشاريع الوقفية والتنمية في حمص تنسيق سوري ودولي لضمان عودة طوعية وتدريجية تقييم احتياجات مركز الرعاية الصحية الأولية في خان أرنبة مرضى يتألمون في "الرازي" بحلب.. وأطباء تخدير غائبون من المسؤول عن صرخة حسن؟ بسبب الصيانة.. فصل الكهرباء عن كامل محافظة القنيطرة تضامن إقليمي.. لبنان يرسل طائرتي إطفاء للمساعدة في حرائق اللاذقية "إكثار البذار" بحلب تنفذ خطّتها الإنتاجية والتسويقية في الطريق نحو فرص العمل.. التدريب والتمكين بوابة الولوج للسوق   ملتقيات التوظيف.. فرص عمل حقيقية أم بيع للأوهام ؟!