ما أقساه فعل «كان» حين يسبق سيرة الأوفياء لذواتهم حين يعيشون الموهبة ، فتأسرهم وينصهرون معها حدّ الذوبان، ما أقساه في الصميم حين يمسي ماضياً، إنه رحيل من صنع حريته بيده ومع ذلك بقي «معزولاً لأسباب تافهة» يبحث عن توازنه الداخلي دون العالم..
هو الناقد السينمائي السوري والشاعر الشغوف بالعطاء «بندر عبد الحميد» المبدع الذي ساهم في إثراء الثقافة السورية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأحد نقاد «الفن السابع» حتى غدا مرجعية فيه وأغنى المكتبة العربية بإنتاجاته، فمؤسس مجلة آفاق السينمائية الإلكترونية كان شغوفاً في عوالم الصحافة التي كانت ملاذه الدائم وهوسه في اكتشاف مكنونات الأحداث، راحت تتسلل إليه لتسرقه من الشعر والرواية وحتى الأدب فكان محاوراً بارعاً وصحفياً ناقداً، فجمع شغف الإعلام وبراعة الأدب، فهو لم يؤمن يوماً بالتخصص الأدبي وحده بل بالتنوع والفوضى الخلاقة، فصاحب مقولة «إننا معزولون لأسباب تافهة» ربما بسبب العزلة، كان شاعراً بالفطرة، ولم يفصل يوماً بين الإنسان والشاعر المسكون فيه، فكتب بمسؤولية واختار أن يكون حراً حتى من التصنيفات وقيود الأجناس الأدبية، فرغم كل الظروف الصعبة التي مر فيها، اختصر المشهد الثقافي الذي لم يشعر يوماً بالرضا عنه بقوله: «الحياة الثقافية هي التي تتقهقر إلى الخلف» وبقي على مقولته حتى رمقه الأخير.
لقد غاب عنا وجه من وجوه «جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب»، راحلاً إلى عالم تتساوى فيه الموسيقا والموت والتراب، وهو من رأى ببصيرة الشاعر كيف»يجتمع الأطفال وينتظرون القمر المجنون/ يجتمع القناصون ويقتسمون رصاص الليل ويقتسمون العشاق وعمال الورديات/ ويحتفلون بعرس النار الفاشستية / لا تنتظري زهراً أو قبعة / من حاملة الطيارات الأمريكية».
فلم تكن كتاباته الشعرية مجرد خواطر للنشر بل كان يحتفظ بها كحبات لؤلؤ يجمعها كي يصنع منها طوقاً يهديه لقرائه فيما بعد، فهو أبداً يؤمن بروح الجماعة، حتى في أعماله الأدبية التي يترقبها كي تنضج كحبات قمح، وليس غريباً على ابن الريف «تل صفوك» القريب من الحسكة، أن يبدع بسخاء ما يغني مكتبتنا العربية، وإن المجموعة الشعرية الأولى بعنوان «كالغزالة كصوت الماء والريح» التي كتب جزءاً منها وهو داخل قضبان السجن لعدة شهور بتهمة ملفّقة، نضحت بخوابيه المكنونة بصدق التعبير حتى نالت إعجاب القراء وحصدت الجوائز، مرسلاً من خلال قصائده السكينة الروحية التي يتمتع بها كشاعر وإنسان.
له مجموعة من المؤلفات للراحل بندر عبد الحميد، المجموعات الشعرية: «اعلانات الموت والحرية» و» احتفالات» و»كانت طويلة في المساء» و»مغامرات الأصابع والعيون» و»الضحك والكارثة»، أما النوع الروائي فكانت الرواية اليتيمة «الطاحونة السوداء»، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب البحثية منها «مغامرة الفن الحديث» و»ساحرات السينما» التي صدرت العام الماضي.
رنا بدري سلوم
التاريخ: الثلاثاء 3 – 3 – 2020
رقم العدد : 17207