د. ثائر زين الدين
لعلَّ من أجملِ ذكريات الطفولة التي ما زالت تستحضرها ذاكرتي إلى اليوم، تلك الزيارة الخياليّة إلى المتحف الحربي في دمشق، أتذكَرُّ كيفَ صعدنا إلى الحافلةِ فرحين، وفي حقيبةِ كلٍ منا ما سيحتاجُهُ في الطريقِ، وفي القيلولةِ من ماءٍ وبعض الأطعمة؛ غنَّينا طوالَ المسافةِ من السويداء إلى دمشق، وكانَ مديرُ مدرستنا والمعلم المشرف، ومعلمة الصف السادسِ يجلسونَ في المقاعِدِ الأماميّة وينظرونَ بين الفينةِ والأخرى إلى الخلف، وقد يقفُ أحدهم ويسيرُ بيننا ويتفقدنا، المهمُّ في الأمر، أنّ ما رأيناهُ في المتحفِ كان باهراً لنا نحن صبيان الصف السادس، فهذهِ السيوف المعروضَةُ هنا وهناك امتشقها أبطالُ التاريخ الذين نحبُّهم وتلك الدروع والمجنّاتُ وقمصان الزرد، حملها وارتداها أبطالنا وردّت عنهم أنصالَ وسهامَ الأعداء؛ وكم أعجبتنا – على بساطتها – أسلحة ثوار الثورة السوريّة ضد المحتل الفرنسي؛ وتجهّمنا عند رؤية المدافع والرشاشات الفرنسية التي اعتدت على بلادنا… كل هذهِ الخيالات التي أراها اليوم بعد مرور نحو خمسةٍ وأربعين عاماً، تذكرتها وأنا أفكِّرُ بدورٍ مُفترضٍ للمتاحفِ في صون التراث الشعبي والحفاظ عليه ونشره؛ صحيحٌ أن ثقافةَ زيارةِ المتاحف ما تزالُ غائبة عن القسطِ الأعظم من أبناء المجتمعات العربيّة، وتكادُ تقتصرُ على الدارسين والباحثين وبعض طلبةِ المدارس، وصحيح أن كثيراً منا لا يرى في المتاحف أكثر من «مخازن» و«مستودعات» للقطع الماديّة المختلفة من العصور الغابرة، ولا رابطة تربطها بالمجتمعات المحيطة؛ لكنّ هذهِ الصورة للمتحفِ ليست جامدة؛ وهي قابلة للتغيير والتعديل والتطوير؛ إن عملنا معاً مسؤولين وشعبيين على تغيير هذهِ الصورة، وعلى ربطِ المتاحفِ المختلفة بالناس، كما هو الشأن في كثيرٍ من البلاد المتقدِّمة؛ لماذا برأيكم يصطفُّ الناسُ في طوابير طويلة ليدخلوا مُتحفَ الإيرميتاج أو اللوفر و سواهما؟
ما الذي يمنع أن ننشئَ متاحف في المحافظات خاصة بالتراث الشعبي المادي وغير المادي، بعد أن أوشكَ كثيرٌ من عناصر هذا التراث يذوب ويضمحل، بل لعل عديداً منه قد اختفى لأسبابٍ اقتصاديّةٍ وماديّةٍ، وبفعل بعض معطياتِ العولمة؛ وسواها.
مثل هذهِ المتحف؛ وحتى الأجنحة التي نستطيعُ إنشاءَها في المتحف العامة الموجودةِ حالياً: يمكن أن تضمَّ مئاتِ القطع التي تمثلّ أدواتِ العمل الزراعي القديمة للفلاحِ السوري ومثلها للحِرْفي والصانِع والعامِل في مختلفِ أشكال الحرفِ، التي انقرضَ بعضها، والأزياء الشعبيّة المختلفة وقد تضمُّ أدواتِ المطبخِ وصناعة القهوةِ وسواها وسواها؛ والحقيقة أنّ بعض السادة المتنوّرين، من محبّي التراث الشعبي، والراغبين في صونِهِ من الاندثار أقاموا متاحف خاصة في بيوتهم، أو في صالاتٍ يملكونها، وأكاد أعرفُ مجموعة أسماء من هؤلاء في بعض المحافظات السوريّة.
المهم أن مثل هذهِ الفكرة جديرة باهتمامِ المعنيين؛ ومسؤولي التراث؛ ولا سيَّما أن سوريّة من أوائل الدول التي وقعت على اتفاقيةِ اليونسكو الخاصة بالحفاظِ على التراثِ وصونِهِ، وشُكِّلَت منذ عام 2005 لجاناً في المحافظات لحصر عناصر التراث الشعبي غير المادي، والعمل على صونِهِ، وصدرت كُتبٌ مهمّةٌ عن الهيئة العامةِ السوريّة للكتابِ في هذا المجال منها ما جَمَعَ الحكايات الشعبيّة في المحافظات، ومنها ما جَمَع الأمثالَ والتعابير الشعبيّة، والأغاني التراثيّة المختلفة، أغاني الأفراح والأتراح… والعادات والتقاليد المختلفة وغيرها…
وأظنّ أن توظيف المتاحف في هذا الجهد النبيل سيكون إضافةً مهمّة في عملِ وزارة الثقافة ووزارة السياحة ووزارة الإدارة المحليّة وغيرها…
لتصلكم صورنا وأخبارنا بسرعة وسهولة انضموا لقناتنا على تيليغرام
https://t.me/thawraonlin