ثورة أون لاين- هفاف ميهوب:
“اقترح عليَّ أحد الأصدقاء أن أصف لقرائي حال الشهداء في السجن. لكن ضيق المجال لا يتسع لوصفِ السجون التي زرتها في الحرب، فكيف يتّسع لوصف تأثري، وتفصيل ما كان يلاقيه الشهداء فيها من أنواع التعذيب”؟..
كلمات لـ “ماري عجمي” أديبة الشام التي تجاوزت بشهرتها حدود وطنها، والتي تحدت الجنود الأتراك واستمرت في النضال ضدهم، وضد المحتلين الفرنسيين بعدهم، وصولاً إلى الاستقلال الذي كان أملها.
نعم هي كلماتها وقد قالتها، بعد أن لبّت طلب أحد الأصدقاء وبعض الأدباء والمثقفين والمناضلين، ممن زارتهم في السجن الذي كان “جمال باشا” الملقب بالسفاح، قد أمر بأن يُساقوا إليه بعد أن وجه إليهم العديد من التهم التي حكم عليهم بسببها، بما تفاقم فيه إجرامه الذي توّجه بإعدامهم في السادس من أيار عام 1916.
إنهم الشهداء الذين أيقظوا الحياة بصحوة عقولهم وكرامتهم، والذين كانت “عجمي” أول أديبةٍ تلبي الدعوة لزيارتهم.. أيضاً، أول من واجه الإجرام العثماني وتمرّد عليه، وفضح وحشيته مع الشهداء الذين تخيلت أحوالهم في السجن الذي زُجوا فيه:
“ساعة أردت أن أجيب طلب الصديق، اعتمدت رأسي بيديّ، فإذ تلك الخيالات المروّعة، والصور الفظيعة، تتسارع إلى مخيلتي، فألهبت دماغي وأخذتني منها رعشة تمثّل لي فيها، أني أسمع أنين أولئك الشهداء، وأبصر مواكبهم المزمعة على الرحيل، وأرى مشانقهم المضروبة كأنها مواقف مناطيد المجد المحلقة إلى السماء..
هذا ما تخيلته، فكان الأبشع منه ما رأته، وبعد أن هرعت إلى تلك السجون فوجدت الأبرياء من أعيان البلاد والأدباء والشعراء الذين أُحضروا من كلّ الأنحاء السورية، ليلاقوا الجزاء من محكمة الموت العرفية.. وجدتهم قد زُجَّ بهم مع المجرمين والجواسيس والمتعطشين للدماء، فما كان منها إلا أن باركتهم بما خلدهم في ضمير الشعب والوطن، شهداء – أحياء:
“ذات يوم، دخلت باباً قام على جانبيه وفي صدره ثلاثة سجون منفصلة، لكلِّ منها حاجز خاص مصنوع من القضبان الحديدية، وهي مجموعة سجون أو عبارة عن كهوف صخرية يوصل إليها بثماني درجات..
كان أولئك الشهداء، يجودون بالقسم الأكبر من طعامهم ولفافاتهم وملابسهم على المجرمين ويتلهون بكتابة رسائل وعرائض يرفعها المجرمون إلى حكامهم أو ذويهم، ولم يكن الشهداء يجرؤون على أن يردوا لهم طلباً نجاة من تعدياتهم، فكانوا تحت رحمتهم ورهن إشارة الخفراء والحكام الظلام، وأني لعلى ثقة بأن المجرمون، كانوا أكثر رحمة من كل هؤلاء..
كنتُ جريئة غير هيّابة، وقد جئت مرة إلى السجن فاعتذر إليَّ الخفير بأن السلالم وراء الباب مليئة بسجناء وصلوا حديثاً، فلا سبيل إلى رؤية من أطلب، وتلطفت بربع مجيدي فأرشدني إلى فوهة قسطل الماء وهو قناة توصل ماء عين الفيجة إلى ذلك السجن الأرضي. ناديت باسم الشهيد وأصخت السمع، فإذا أصوات جياشة وأنين عميق أشبه بعاصفة ثائرة مخيفة، بينها صوت ذاك الشهيد يجيب ندائي، ويسمع رسالتي، بقدرِ ما مكّنته من سماعها تلك القناة المائية..”..
هذا بعض ما اخترناه مما كتبته “عجمي” وباركت به أرواح شهداء السادس من أيار.. هذا بعض ما اخترناه وخلّد نورهم في وجداننا، مثلما أضاء على كلماتِ “عجمي” التي نختم بما قالته ويجدد اللعنة على المجرم العثماني والخائن والغدار:
“ردّي عليَّ يا أرواح الشهداء.. هل أنتِ راضية عن تلك الأعواد التي عُلِّقتِ عليها، وهل أزهرتْ آمالاً جالت في أحلامكِ، وعَقدت ثماراً سُقيتْ بدمائك، فوثقتِ بأنها لن تصيرَ فيما بعد وقوداً، أو تصلح لتعليقِ شهداء آخرين”؟…