الملحق الثقافي:تأليف: ميخائيل بوزدنياكوف/ ترجمة: د. ثائر زين الدين:
لم أهجرْ قريتي الأصلية زابروديا، في منطقة بيخوف، بسبب كارثة تشيرنوبل الرهيبة، مع أنَّها ألقت علينا “هداياها”. تلاشت تلك التي “لا مستقبلَ لها”، وهُجِرت ببطء وبشكلٍ حثيث من تلقاء نفسها. ولكن بالرغم من كل ذلك، فهي عندي اليومَ مسقط رأسي الأكثر جمالاً وروعةً على الأرض بأكملها. وأتذكر الأماكن العزيزة على قلبي، أرى (وبخاصة عن بعد) تلك الأماكن المزهرة، التي عشت فيها الحياة، والآمال والسعادة. كانت عائلتنا كبيرة، ومجتهدة، وودية، واستثنائية. كان لدى والدي، بافيل كوزميتش، ثلاثة أطفال من زواجه الأول. توفيت زوجته غلاشا في عام 1944 بسبب التيفوئيد، وأرسلوه -هو المحارب على جبهة القتالِ- إلى المنزل بعد المستشفى لتربية الأطفال الأيتام (وكانت موغيليفشينا قد تحرَّرت). وكان لوالدتي، ماريا إيفدوكيموفنا، طفلانِ من زواجها الأول. قُتِلَ زوجها في الجبهة. ولحسن الحظ، عاشا في المنطقة نفسها. التقيا ببعضهما بعضاً. وتزوجا وأنجبا ستة أطفال آخرين، كنتُ أنا الرابع فيما بينهم.
كان والدنا رجلاً صالحاً، ومُحبّاً للعمل بصورةٍ استثنائيّة، وصارماً وحكيماً، ومحترماً كثيراً ليس في القرية فحسب، بل بعيداً عن حدودها أيضاً. عَمِلَ رئيسَ فريقٍ ميداني، لحراس الغابة، وفي السنوات الـ 25 الأخيرة حتى تقاعده كانَ مسؤولاً فنيّاً عن قناة مائية: اعتنى بالنهر الصغير ذي الاسم الرومانسي غريز “حلم اليقظة” (كانَ مسؤولاً عن 5 كم منه) وبرافدهِ زابرودشانك. عملنا معه نحن الأبناء، في كثير من الأحيان، من شهرِ أيّار حتى تشرين الأوّل. ساعدناهُ في قص الأعشاب وتمتين الضفاف، وتنظيف المجرى. أعتقد أن نهرَ “حلم اليقظة” يجري ويتدفق الآن، عطراً، ونظيفاً، وجذاباً، عبرَ قلبي.
كان أبي راوياً مثيراً للاهتمام، وغالباً ما كان يُقدِّمُ مُلاحظاتهِ منظومةً كالشعر، وكان يحفظ كثيراً من القصائد، ولا سيما الكلاسيكيّة الروسيّة والبيلاروسيّة. كان “مُعلِّماً” في عديدٍ من الحرف: خبيراً بالزراعة، وبستانيّاً، ونجّاراً، وسمكريّاً، وصانع براميل، ومربي نحل، وصيّاداً، وصيّادَ سمكٍ، وصيدلانيّاً… كان بإمكانهِ بناءَ منزلٍ، وصنعَ عربةٍ، ومزلجةٍ، وأحذيةِ لبّاد، وخياطة معطف من جلد الغنم، وعلاج حيوان، وإنسان.. مشارك في ثلاث حروب: البيلوبولسكية والفنلندية والحرب الوطنيّة العظمى (العالمية الثانية). وقد قدّر القراءة والدراسة وشجّعَ عليهما. غَنَّى بشكلٍ رائع، وكم من الأغنياتِ كان يعرف! وكنتُ أراهُ راقصاً بارعاً! وأودُّ أن أشير بشكل خاص إلى أن أبي كان مؤمناً، فقد كان يصلي دائماً، ووجد وقتاً لزيارة الكنيسة. التي كانت في بيخوف على بعد 18 كم من زابرودي. حاولَ العيشَ وفقَ وصايا الله، وعلّمنا – اقتداء نموذَجهِ- أن نكون طيبين، صادقين، نحترم الإنسان، ونقدّر عمله، وألا ننكر الخالق، الذي أبدع سرّ الكون العظيم.
أمّنا لم تكن أقل موهبةً وإثارةً للإعجاب. فهي بالإضافةِ للأعمال في المنزل، وفي الحديقة، وفي الفناء، كانت تُنظّفُ هكتاراتٍ من الأعشابِ الجافةِ الضارةِ كل صيف، وتحصد، وتعزِلُ، وتقتلع- الشوندر، والجاودار، والكتان، والجزر. بالطبع، نحن الأطفال ساعدنا في كل شيء. امتازت بالذكاء الفِطري، وبصحة ما تتخذه من الأحكام، ومن تقييم أفعال شخص ما، وتصرفاته. وكم من قطعِ الكتّانِ و المناشف، والشراشف الرائعة نسجت وحاكت في المنزل! وكم من الأساطير، والقصص، والمغامرات المثيرة للاهتمام، التي كانت مفتونةً بها، قصّت علينا!
واليوم أشعر بدفئها الأموميّ، ورعايتها، ونظراتها الحانية الحيّة، مع أنها، مثل والدي، لم تعد بيننا منذ زمن طويل..
التزمَ والدانا بالتقاليد الشعبية. وكان ذلكَ ملحوظاً بشكل خاص خلال الأعياد، التي حَضَّرا لها مسبقاً. أتذكر عيد الفصح جيداً؛ كانا قبيل حلولهِ بقليلٍ يُرتِّبانِ المنزل، والفناء، وحديقة المنزل، والشارع، والحقل. ويستحمّانِ. ويستيقظانِ باكراً صبيحةَ العيدِ. تفوحُ رائحة الكعك الشهية في البيت في انتظار أمرٍ ما نادرٍ، واحتفاليٍّ. نغتسلُ بالماء البارد من دلو، وُضعَ في الجزء السفلي منه بيضٌ مطليٌّ مُبارك. نرتدي ملابس احتفالية. يرسمان إشارة الصليب. يصلّي الأبُ أمام الأيقونة، ويقف الجميع بصمت بالقرب منه. نجلسُ بعد والدنا إلى مائدة عيد الفصح الغنيّة بعد الصيام، العامرة بخمسة عشر نوعاً من الطعام على الأقل. كان ثمَّةَ ترتيبٌ معين في تناول الطعام، يشرف عليه الأب. يُعطى الأطفالُ البيضَ الملون بعد الإفطار الشهي، ويمضي كلٌ منهم إلى عرّابه في العماد، والعرّابون يستقبلونهم ويهنئونهم بعيد الفصح، ويضيفونهم كعكة وبيضة ملوّنة. ثم يتجمع الأطفال في مجموعات، ويلعبونَ “لعبة ضرب البيض”، ومن تكون بيضته أكثر صلابةً، يربَحُ البيضة التي كُسرت. ويستمرّ العيد طوال اليوم..
توفِّيَ كبار السنّ من سكان قرية زابروديا ومضوا إلى المقبرة، ووجدوا هناك الراحةَ الأبديَّة. استقرَ في روحي، من بين الرجال الذين عملوا بجد واجتهاد، جدي إيفان، وجدي ماركو، وعمي إبراهيم، والعمّان ميخائيل.. كان الجد إيفان صارماً للغاية، ولاسيّما في شيخوخته. وقد نال منّا، نحن أطفال القرية، عندما كنّا نركضُ إلى حديقته الغنية لقطف تلك الثمار اللذيذة. جنديُّ الحرب العالمية الأولى هذا، قضى سنوات عدة في الأسر عند الألمان. أحب الجد إيفان الحديث عن حياته القسريَّة في ألمانيا في لحظات الراحة النادرة. ولم يتعب القرويون المسنون من سؤاله عن كثيرٍ مما عاشه. وينبغي أن أشير إلى أن قصصه تلك أدهشتني، بل أذهلت عقلي الطفولي.. لا سيما كيفَ أُعجِبتْ المضيفةُ الألمانيّةُ بالبيلاروسي القوي جداً، فكانت غالباً ما تتركه ينام في غرفة نومها. وعندما عاد زوجها من الأسر الروسي، أخبرته بنفسها عن ذلك. وأوشكَ الجد إيفان يودع حياته، لكن الألماني صافحه يداً بيد وربَّتَ على كتفه قائلاً: “جيّد أيّها الروسي، حافظتْ زوجتي فراي على صحَّتها بفضلك..”.
وتميَّزَ الجدُّ ماركو، طويلُ القامةِ، قويُّ البنيةِ، بحكمتهِ، وضبط النفس، وحتى بنوعٍ من الذكاءِ الفلاحيّ، وأيضاً بقدرته على قذفِ حزمة القش على مروج السوفخوز، حيث عملنا نحن المراهقين مع البالغين خلال العطلات. كنت مفتوناً دائماً بكيفيّة انحدار رجل يبلغ من العمر سبعين عاماً ببراعة ودهاء إلى الأرض البكر، وإتمامِ مُراكمةِ كومةٍ عالية من القش..
أمّا عمي إبراهيم، فهو أولاً: من عمدني في كنيسة غلوخوفسكايا، التي دمرها الملحدون المتحمّسون بعد بضع سنوات. وبالمناسبة، انطبعت صورة الإساءة إلى تلكَ الأماكن المقدسة بشكل مؤلم وغير واع في داخلي (كنت في سن المراهقة، وشاهدت ذلكَ التخريب) حتى أنني بدأتُ أحلُمُ بالحربِ على صورةِ كنيسةٍ مشوَّهةٍ. ثانياً: العم إبراهيم كان ذلكَ الحداد الذي يستطيعُ صناعةَ حتى هلالٍ ذهبيٍّ وزهرةِ سرخس.
أكثر ما كان يُذكِّرني بالعم الأول ميخائيل – ميخائيل بوزدنياكوف سيلانتيفيتش – كرمُ ضيافتِهِ، وأنه كان في عيد النصر، 9 مايو/ أيّار، يُطلقُ النارَ من بندقيَّتهِ تكريماً لأولئك الذين لم يعودوا من الحرب. استُدعيَ محاربُ الجبهةِ العم ميخائيل إلى الحربِ جُنديَّاً، وعاد ملازماً. لقد كان قوياً، بإمكانه رفع ثور.. بالمناسبة، في لهيب الحرب الوطنية العظمى، قُتلَ عديدٌ من سكان قريتنا، بما في ذلك عمي دافيد وابن عم والدي العم ياكوف..
والعم الثاني ميخائيل – ميلنيكوف ميخائيل ستيفانوفيتش – زوج عمّتي زينايدا (الأصغر من ناحية أبي). عمل ميخائيل ستيفانوفيتش رئيسَ مجموعةِ عمالٍ تشتغلُ في الأرض. وهو من قدمنا (أبناءَه وأنا وأشخاصاً آخرينَ من قرية زابرودسكايا للعمل الجماعي في حقول السوفخوزات الحكوميّة). أتذكر أجري الأول وكنتُ في الصف الثامن – 24 روبلاً في الشهر (أكثر من 30 دولاراً). زرعنا البطاطا والشوندر والجزر وقصصنا العشبَ مع البالغين، وساعدنا على تجفيف القش وتجميعه وفي الحصاد.. أحببنا في الصيف الذهاب لقصّ العشب في مرج نهر الدنيبر، حيث بقينا هناك للنوم بالقرب من النهر ليلاً، بعد عمل يوم شاق: استحمينا، واصطدنا الأسماكَ، وطبخنا حساء السمك، ونمنا على العشب المقصوص الطازج..
ومن بين النساء الريفيات، الكادحات الأبديات، العاطفيات والدقيقات، أكثر من يخطرُ ببالي عمتي ماريا، التي ما فارقت الابتسامة وجهها نحو مئة وعشرة أعوام. لقد حنت علينا، وساعدتنا في الأوقات الصعبة، وعاشت من دون استياء وغضب، مع أنَّ زوجها اختفى في جزر سولوفكي المحاذية للقطب الشمالي، بعد اعتقاله بتهمة حجب أملاكه عن الدولة.. واستقرت في ذاكرتي جارتنا، الخالة أوليانا. وكانت هذه الأخيرة، زوجة العم ماركو، مربيةَ نحلٍ حقيقية، وهي عمليّاً، وليس هو من اعتنى بالمنحلة. وقد أنقذتني، مُراهقاً أبلغ من العمر اثني عشر عاماً، عندما طارَ نحوي سرب نحل: ألقت بي على الأرض، وضربت النحلَ بالرملِ، والعشبِ، ثم حجبتني عنه..
تَعلَّمتُ بداية في مدرسة القرية الابتدائية، حيث كان يُعَلِّمُ نيقولاي أفاناسيفيتش كوندراتينكو الصارمُ ولكنْ ذو الخبرة الكبيرة. ابتلعني عالمُ الكتبِ، عالمُ المعرفةِ الساحرُ والمثيرُ والغامضُ الذي لا نهاية له. وفتح أمامي كلُّ درسٍ، وكلُّ كتاب جديد، وكل حدثٍ مدرسيٍّ، كثيراً من الأشياء الجديدة والمثيرة والضرورية، واستمعت إليهِ بكل إخلاص واستمتعت به. ومن ثمَّ تابعتُ في مدرسة ثانوية في قرية غلوخا المجاورة، فدرست بدءاً من الصف الخامس. وهناك عرَّفتني معلمة اللغة الروسية والأدب الروسي روزا سيمينوفنا نيكيفوروفا إلى الشعر، ودفعتني إلى دراسة الفن، حيث درست بعد ذلك في مبنى عصري من طابقين، بُنيَ باجتهادٍ ودعمٍ ماليٍّ من مواطن منطقتنا الشهير، بطل الاتحاد السوفيتي، مارشال الطيران ستيبان أكيموفيتش كراسكوفسكي. الذي كان لقائي بهِ في الصف السابعِ لا يُنسى حتى الآن بأدقّ تفاصيله. هنا اهتمَمتُ بشكلٍ فعلي بالرياضيات، والجغرافيا، والتاريخ، والأدب، والرياضة، والنشاطات الاجتماعية. وهنا قُبِلتُ في الروّاد، وفي وقت لاحق – عضواً في صفوف الكومسومول، وهو ما يُعَدُّ بصدقٍ نجاحاً حقيقياً، لأنهم قبلوا الأفضل، ولأن مئات الأعمال الحسنة الصغيرة جعلتنا نعمل بجد، وبعناية، وحماس، وبمحبة للوطن الأم، وأرض الوطن، ونتيجة لذلك، أعدونا لحياة كبيرة. هنا، في الصف التاسعِ، انتخبتُ رئيساً لتحريرِ صحيفة الحائط “الكشّاف الكومسومولي”. هنا ولد الحلمُ السرّيُّ لدخول جامعة بيلاروسيا الحكومية. هنا استمرار مصادر نجاحاتي الإبداعية والعملية.
هنا الآن أُنظّمُ كلَّ عامٍ عيداً أدبيّاً كبيراً. بمشاركة مشاهير الأدباء والفنانين وكتّاب الأغاني. مع تقديم جائزة نقدية للطلاب العشرة الأوائل في المدرسة، وهدايا قيمة لنجاحهم في المدرسة والحياة الاجتماعية والعمل.
يسعدني أنه يوجد في مكتبة مدرستي الأم أكثر من مئتي كتاب موقّع من قبل المؤلفين أنفسهم – وهم كتَّابٌ مشهورون، وأن أبناء منطقتي يتفاعلونَ مع كلماتِ الكُتّابِ الحكيمة، وأنني أُؤثِّرُ ولو قليلاً في تنشِئتهم وطنيين حقيقيين، يحبّونَ العملَ ويقدرونَهُ، ويتعلّمون القيم الأصيلةَ الطيّبة، كي يصبحوا مواطنين حقيقيين لبلدنا الرائع.
غادر شباب زابرودسكي القرية، وسافروا في جميع أنحاء البلاد، في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. أمَّا في التسعينيّات فلم يعد هناك من يغادر. حُوفِظَ اليوم من أصلِ اثنين وثلاثينَ بيتاً ريفيّاً، على أربعةِ أكواخٍ فقط، ويعيش الناس في ثلاثةٍ منها فحسب. والقرية، حيث عشتُ سنواتِ دراستي الأولى، غنّى كلُّ شيءٍ، وازدهر، وغلى، تحولتِ القريةُ إلى جزيرة خضراء هادئة بين الحقول. بيتُ الوالدين، الذي طار منه أحدَ عشرَ طفلاً إلى الحياة الواسعة ذاتَ يوم، ظلَّ فارغاً لفترة طويلة. قضى الأبوانِ السنوات الأخيرة من حياتهما في موطن الوالدة، في قرية يامنوي بالقرب من بيخوف. ولكن بدأت أخواتي منذ أربعةَ عشرَ عاماً بالعملِ هنا من الربيع إلى أواخر الخريف فعليّاً، في بيتِ والدي الأصلي. كل دقيقة هنا في البيت، مثل رشفة من الماء الحي بالنسبة إلينا. انبعثتِ الحياة إلى المكان العزيز، وأزهرت البطاطا، وانتشرت أحواضُ المزروعات، وبزغت موجاتٌ ملونة من الأزهار..
في كل عام، وفي شهر أيّار، ومن ثم في شهر تموز، أمرّ بالأماكن العزيزة لتدفئة روحي، ولأفكر، وأعترف، ولأنحني أمامَ مسقط رأسي، وأتنفّس هواءَه العليل الشافي، وأنكبُّ على ورقة بيضاء للتعبير عن أعمق ما أثارني من مشاعر.
يأتي الأصدقاء، يجيءُ أبناء البلد، والأقارب.
وتصدح في المساء أغنياتنا المفضلة عندما نجتمع معاً تحت شجرة القيقب العظيمة القديمة، التي ما تزال أوراقُها الفتيّة تنبض وتُحفحف، مُبتهِجةً مع الناس بالحياة.
التاريخ: الثلاثاء5-5-2020
رقم العدد :997