الملحق الثقافي:إعداد: رشا سلوم:
يستغرب المتابع للمشهد الإبداعي الغربي، لماذا انكفأت فيه نزعة الحرية والإنسانية التي كانت تميزه وتسعى لتكون عالمية، هل نتحدث عن عشرات الشعراء هنا؟ أم نقف عند أحد أهم الشعراء الفرنسيين بول إيلوار , المعروف بنزعته الإنسانية وقصة حبه الخالدة مع غالا؟ في تجوالنا اليوم قطفنا من بستان ما كتب عنه الكثيرون. يقول الناقد رضوان السائحي عنه في مجلة نزوى العمانية:
يعتبر بول إيلوار من المتمردين على النمط الكلاسيكي للقصيدة، والثائرين على السائد، وإن كل من يتمعن في المراحل التي مر بها الشاعر الفرنسي بول إيلوار في حياته يجدها تتوزع على عدة محطات، عرف خلالها الشاعر تحولات نفسية بسبب الأزمات الصحية التي عاشها في بداية حياته وأثناء الحرب، وأحداث تاريخية تجلت في مشاركته في الحربين العالميتين، وما حملتاه من مآس وآلام ومعاناة نفسية وجسدية.
في مقابل كل هذه المعاناة تذوق الحب الذي كان له بلسماً ومتنفساً طهر صدره من روائح الدخان والبارود، فالحب بالنسبة إليه كان ملازماً للوجود، لأنه يستفز ويثير شهوة كتابة الشعر. كما عاش تجربة تيارين حداثيين تجسدا في الحركتين الدادائية والسريالية، وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وشارك في عدة مؤتمرات عالمية، وصار داعياً للسلام.
كل هذه المؤثرات جعلت شعره يتصف بالتعقيد وشدة التركيز «لقد تنحى إيلوار بشعره عن مفهوم المزاوجة بين الأحداث، فجعل لكل فكرة خصوصيتها على صعيد الحدث المؤثر في لحظة الخلق الشعري، أي أنه أقام من دون أن يعلم نظاماً رقابياً على مخيلته ووعيه. يكون فيه اللاوعي هو الجهة المنفذة لذلك النظام الرقابي الذي أعطى فيه للوقائع المرئية استحقاقاتها، وللذاتي غير المقترن إلا بحدس الخيال هو الآخر استحقاقاته التي تتوجب ضمن دائرة مخيفة من متطلبات الحاجة للحب والحياة».
تتميز قصائد بول إيلوار بلغتها الغنائية التي يسهل تحويلها إلى عمل موسيقي، وفي نفس الوقت يمكن أن تُلهم الرسام أو المسرحي.. وتستمد القصيدة نبضها من الواقع، وتعتبر المرأة رئتها والطبيعة فضاءها الخصب، والحلم هواءها والحرية أمطارها التي تروي عطش البسطاء بالأمل. لم تشغله الكتابة الشعرية عن نشاطاته المتنوعة، ومناداته بالحرية، وتحرير الشعوب المحتلة، والمقاومة والمشاركة في الحروب. حيث يقول: «لن نحقق أهدافنا واحداً واحداً بل اثنين اثنين، كما سيحبّ بعضنا الآخر، بل سيضحك أولادنا من خرافة سوداء حيث يبكي شخص وحيد».
سيرة
ولد بول إيلوار في «سانت دينيس» بفرنسا في كانون الأول/ ديسمبر 1895، وفي 18 من تشرين الثاني/ نوفمبر من 1952 وفي الساعة التاسعة صباحاً توفي بول إيلوار إثر نوبة قلبية في منزله في جرافيل بفرنسا، تكفل الحزب الشيوعي بمراسيم الدفن، وحضر جنازته بيكاسو وعدد قليل من أصدقائه القدامى. وقال الكاتب الفرنسي روبرت ساباتييه عن يوم موته: «في ذلك اليوم، كان العالم كله في حالة حداد». وكتب جان كوكتو غداة وفاة إيلوار عام 1953 في مجلة (Europe) ما يلي: «أصبحت صديقاً لإيلوار بعد سبعة عشر عاماً من الخصومة، وأصبحت هذه الخصومة فيما بعد أمتن قاعدة تفاهمنا عليها».
حبه الخالد
أسطورة هذا الحب بين «غالا» و»ايلوار» تعرف عليها الناس عبر الرسائل المتبادلة بينهما والتي جمعت في مجلد يحمل عنوان «رسائل إلى غالا 1924-1948 «.
272 رسالة أرسلها إيلوار مقابل 15 رسالة من غالا، وهي كل ما تبقى من رسائلها إليه بعد أن أحرقت معظم الرسائل أثناء الحرب.
تبدأ قصة العشق هذه عندما يتعرف شاب اسمه بول أوجين غريندل والذي عرف في ما بعد ببول إيلوار إلى فتاة روسية هي هيلينا ديمتريفنا دياكونوفا والتي ستحمل حتى وفاتها اسم «غالا» كما أطلقه بول عليها.
أين كان مكان اللقاء بالضبط والمعلومات متضاربة، فهناك من يقول مستشفى للأمراض الصدرية في مدينة كلافاديل في فرنسا 1912 أو مصحة في سويسرا. ليس هذا المهم ولكنهما قطعاً قد تعرفا إلى بعضهما البعض في مستشفى وكانا يتلقيان العلاج من مرض السل الرئوي. وتقول إحدى الروايات إنهما كانا في عمر واحد انذاك: في السابعة عشرة.
وبعد أن شفيا، عادت «غالا» إلى روسيا والتحق «إيلوار» بالجيش مع بداية الحرب العالمية الأولى. وقبل نهاية الحرب التقيا مرة أخرى وأقامت هي في بيت أهله، وقد تزوجا بعد نهاية الحرب في 1917 وأنجبا في العام التالي ابنتهما الوحيدة سيشل.
رسائل إيلوار وغالا
في إحدى رسائلها تقول «غالا» إنها امرأة فريدة بين النساء وكذلك إيلوار فهو فريد بين الرجال كما تقول عنه، و كانت تقول أيضاً إنهما من طينة واحدة. نعم لقد عاشا حياة فريدة أيضاً، بتواصلهما أم بفراقهما ودون أن تنطفئ جذوة الحب المتوهجة دائماً.
لقد سحرت «غالا» الكثيرين من الفنانين، وكانت لها شخصية فريدة ذات تأثير كبير على العديد من السرياليين وقد وصفها «بروتون» في إهداء كتابه المشترك مع إيلوار بأنها «الحبل بلا دنس» بأنها المرأة الخالدة وبسببها ضرب ماكس إرنست صديقه إيلوار على عينه فأدماه، وهجس فيها الشاعر «كريفيل» قبل موته. وأهدى إليها رينيه شار بعض قصائده. وأغواها سلفادور دالي بالبذخ الذي كانت ضعيفة إزاءه فارتضت أن تكون لعبته، من دون أن تكف عن حب إيلوار الوحيد الذي وهبها كل قلبه وكل حياته.
كان ايلوار ينادي «غالا» بصغيرتي ابنتي. وقد أطلق عليها كذلك «زوجتي مدى الدهر» حتى قبل أن يتزوجها. و لقد أثرت «غالا» تأثيراً كبيراً على إنتاج «إيلوار» الشعري، ويعترف هو لها بأنه لم يكن ليكتب ما كتب لولاها، وأنه لا يعتد بكل النقد ما لم يكن منها. وهكذا لم تكن ملهمته في القصائد التي كتبها مباشرة لها، بل في مجمل ما كتب من شعر وتتوضح تفاصيل هذه العلاقة الفريدة أولاً عبر رسائل إيلوار إليها.
من قصائده:
العنقاء
أنا الأخير في الطريق
آخر ربيع.. آخر ثلج
آخر معركة كي لا أموت
وها نحن أسفل
وأعلى أكثـر من ذي قبل
..
في محطبتنا من كل شيء
تفاحات صنوبر وأغصان طرية
وأيضاً زهور أقوى من الماء.
من الطين ومن الندى
..
اللهـب تحت أقدامنا..
اللهب يكللنا
عند أقدامنا حشرات
وطيور ورجال..
جميعاً سيحلقون
الذين يحلقون سيستقرون
..
السماء صافية
والأرض مكفهرة
لكن الـدخان يـرحل نحو الـسماء
السماء فقـدت كـل نيرانها
ظل اللهب على الأرض
اللهـب هــو سحاب الـقلب
وكل أغـصان الدم
تغني لحننا
تُبَددُ ضباب شتائنا.
التاريخ: الثلاثاء5-5-2020
رقم العدد :997