الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
حتى وقت متأخر لم يكن الاقتصاديون مهتمين بسؤال التنمية المستدامة، بينما نالت هذه القضية اهتمام الباحثين الجغرافيين والإيكولوجيين وعلماء الفيزياء وخبراء البيئة. لا يوجد هناك تعريف واحد للتنمية المستدامة، فعلماء الفيزياء يركزون على مظاهر تختلف عن تلك التي يهتم بها البيئيون، غير أن مختلف الاتجاهات تناولت جميع أو جزءاً من العناصر التالية:
1- النظام المستديم هو النظام الذي يمتد زمنياً إلى ما لانهاية. فهو نظام لا يتغير أو في حالة توازن. غير أن المجتمعات الطبيعية تتألف من كائنات حية، فالتغيير هو جزء من عمليات الولادة والنمو والذبول. والتغيير (بما في ذلك التنمية) يكون مستديماً في المجتمعات الطبيعية، إذا لم يكن هناك ضياع في الموارد.
2- ينصب مفهوم الاستدامة خصيصاً على الحاجة للحفاظ على المصادر الغذائية. فالنظام الزراعي في الدول المتقدمة صناعياً هو نظام مسبب للتلف والضياع، فمثلاً القمح يُستعمل لإنتاج البروتين الحيواني، وفي الولايات المتحدة 78% من القمح الأمريكي يُوجّه لإنتاج البروتين الحيواني لغرض الاستهلاك الإنساني. والنباتيون يرون من الخسارة تحويل البروتين النباتي إلى بروتين حيواني إذا أريد للتنمية أن تستديم.
3- إن الأنظمة الزراعية تُعتبر مستديمة فقط إذا تمكنت من الصمود أمام الضغوط. والأنظمة الزراعية في الدول المتطورة هي عالية الإنتاجية، ولكنها بنفس الوقت معرّضة إلى مخاطر كبيرة، فهي تعتمد على أساس وراثي ضيق. وأي تهديد للأنواع حتى لو كان صغيراً سوف يؤثر على النظام بالكامل. والأنواع ربما تقاوم وسائل السيطرة الاصطناعية المستعملة في مكافحة الأعشاب والحشرات، ولا يمكن الحصول على مردود عال، ما لم يتم استعمال كميات كبيرة من المخصبات الصناعية.
4- إن الدول النامية خصيصاً بحاجة إلى نظام إنتاجي مستديم، فلا بد من مراعاة حقيقة أن غالبية سكان الدول النامية يعتمدون على القطاعات الأولية (الزراعة والغابات والصيد). فإذا لم تكن هذه النشاطات مستديمة ضمن عملية التنمية، فإن المجتمع سيتعرض للتهديد. غالبية أفراد هذه الدول يعيشون قريبين من حد الكفاف، ومع غياب أنظمة التأمين الاجتماعي، ذلك يعني أن الناس يواجهون المجاعة، والزيادة السكانية تجعل المشكلة أكثر خطورة حينما لم يعد بالإمكان الحفاظ على مستويات الدخل. وكذلك بالنسبة إلى حركة العمالة ورأس المال تكون بطيئة في الدول الفقيرة، وإذا حصل أي تخريب في البيئة في منطقة معينة أو إقليم معين، فمن الصعب العثور على وسيلة للعمل في مكان آخر.
5- إن شعوب المجتمعات التقليدية لهم مفهومهم الخاص عن معنى الاستدامة والذي يتعارض مع مفاهيم السوق الحديث. فمثلاً هم يعتقدون أن الأرض والموارد الطبيعية يجب أن تبقى في وضعها الطبيعي، فالأجيال القادمة لها الأولوية بهذه المصادر. إن مجتمعات الغابات تتحفظ كثيراً في هذا الجانب، فمثلاً بعض الجماعات في غرب الهند يعيشون في حالة توازن دقيق مع بيئتهم، فهم يقطعون من الغابات فقط ما هو ضروري لتلبية حاجاتهم، ويدركون أن أي استغلال مفرط سيؤدي إلى تحطيم البيئة. فهم يبنون مساكنهم من مواد متجددة مثل الطين والقش، وحينما سُمح للجرارات بالدخول إلى المنطقة جرى قطع الأخشاب وتصديرها إلى الخارج لغرض استيراد بضائع لم يكن أولئك السكان بحاجة إليها. فالتنمية المستدامة تتطلب ترك المصادر كما هي بدون استغلال.
الاقتصاديون ومفهوم الاستدامة
ينظر اقتصاديو التنمية إلى مفهوم الاستدامة ضمن إطار الإدارة الكلية. فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يشيران إلى النمو الدائم أو التنمية المستدامة بالزيادة في الدخل الفردي، والتي يمكن المحافظة عليها بعيداً عن آثار التضخم أو مشاكل ميزان المدفوعات.
وهكذا يركز صندوق النقد الدولي ومعه البنك الدولي على اعتبارات جانب العرض، إذا أريد المحافظة على النمو. والاقتصاد ربما يحتاج إلى التحرير عن طريق رفع الدعم أو تبنّي سياسة الخصخصة أو خفض سعر الصرف والمزيد من استراتيجيات التنمية المنفتحة. أما السياسات التي تهدف فقط إلى تنشيط الطلب عبر إرخاء السياسة النقدية وخفض سعر الفائدة، فهي من غير المحتمل أن تحقق تنمية مستديمة. فالرخاء المادي سينكمش بفعل التضخم أو المديونية أو سعر الصرف المرتفع.
إن تعريف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمفهوم الاستدامة يبدو بعيداً عن اهتمامات المحافظين والبيئيين، بل وعلى العكس تماماً، يرى البعض أن سياسات البنك الدولي تفضل النشاطات التي تُعتبر غير مستديمة. فمثلاً، الدول النامية شُجّعت من جانب الوكالات الدولية لكي تطبق تحليلات المنفعة – التكاليف في تقييم خطط الاستثمار العام، فالمحطة النووية تعطي فوائد وتتحمل تكاليف ضمن مدى زمني معين.
واليوم يعترف المستثمرون بأن تقييم الاستثمار يتطلب احتساب التكاليف الاجتماعية غير المباشرة مثل التلوث البيئي. ولكن حتى لو اُخذت هذه التكاليف في الاعتبار، فلا يزال المخطط الاستثماري يستعمل سعر خصم للمردود في المستقبل لكي يجسد القيمة اليوم، وسعر الخصم هذا يفضل المردود الصافي المتحصل في السنوات الأولى للاستثمار على صافي المردود في السنوات البعيدة، وهذا ربما يجعل من المفيد اقتصادياً الشروع بأعمال غير مستديمة. مع وجود سعر خصم عال، لا ترى المحطة النووية أي أهمية لما تحصل عليه من القليل من صافي المردود بعد 60 سنة من الآن إذا كان صافي المردود الحالي كبيراً إلى درجة يعوّض عن تلك الخسائر المستقبلية.
والمحافظون يجادلون بأن خطأً جسيماً سيحدث لو لم ندرك النتائج طويلة الأجل للقرارات ذات الآثار غير المرتجعة. وهم يشيرون إلى أن المجتمعات التي تتخذ قرارات تقوم على مبدأ المحافظة على الموارد لكي يستخدمها أطفالهم بنفس شكلها السابق (بمعنى استعمال سعر خصم صفر لخصم مردود المستقبل)، هي ربما قرارات غير رشيدة اقتصادياً، ولكن تلك الجماعات ستبقى حية لأنها اعتمدت مبدأ التنمية المستدامة.
قياس نجاح التنمية المستدامة
إن الانتقادات التي يوجهها الاقتصاديون ضد جماعات الضغط المحافظة، هي أن تلك الجماعات لم تتمكن من تحديد أهداف التنمية المستديمة وليست لديها معايير لقياس تلك الاستدامة. والمحافظون ربما يعتبرون هذه التنمية المستديمة هي إطالة قدرة الأرض على خدمة الحياة الإنسانية. غير أن الاقتصاديين يشيرون إلى أن ذلك يعتمد على الطريقة التي نقيّم بها القناعة في الحاضر مقابل القناعة في المستقبل، أو بمعنى آخر يتعلق بالأرباح والخسائر للجيل الحالي والمستقبلي. فمثلاً، كيف نقرر حجم العائلة الآن وفي المستقبل؟ يجب ملاحظة عدم وجود سبب مجرد بذاته لنفضل الحاضر على المستقبل أو العكس. الأمر يعتمد على سعر الخصم (الفائدة) المُعتمد الذي يعكس بطريقة ما القيم الثقافية التي تُنسب إلى قناعة الحاضر والمستقبل.
وفيما يتعلق بقياسات الاستدامة استطاع بعض الإيكولوجيين إيجاد وسائل قياس كمية ملائمة للاستدامة. ومن القياسات الأحادية مثلاً: انجراف التربة وفقدان غطاء الغابات وتلوث الماء والهواء. وهذه القياسات لابد أن تؤخذ مجتمعة إذا أريد التوصل إلى معنى للتنمية المستدامة. والاقتصاديون طُلب إليهم أن يُعطوا مزيداً من الاهتمام للاندثار في رأس المال الصناعي والبشري. فلابد من طرح قيمة الاندثار من إجمالي الناتج القومي لغرض الوصول إلى صافي الدخل القومي. فمثلاً، سوء التغذية، خاصة لدى الأطفال والحوامل من النساء يقلل من رأس المال البشري في الدول النامية، وهو ما يؤثر بالتالي على حسابات الدخل القومي. وبنفس الطريقة بالنسبة إلى تجريف التربة في المناطق الهشة من الدول النامية، إذ يمثل تخريباً للأرض والمصادر المرتبطة بها وتتطلب القياس عند حساب الاندثار.
وأخيرا هناك مدرسة فكرية ترى أن الدول النامية وحيث الغالبية من السكان يعيشون عند حد الكفاف، يكون فيها الميل للاستهلاك قوياً. وفي هذه المجتمعات يوجد القليل من الطلب على النظام الإنتاجي المستديم، ومرونة الطلب على الحماية البيئية ستكون قليلة. وعكس ذلك في الدول الغنية حيث لديها مرونة طلب عالية بالنسبة إلى الحماية البيئية ومرونة منخفضة للحاجات الأساسية.
إن هذه المسائل لها تأثير كبير على التنمية، لأنها تكشف عن الميل المتزايد للدول الغنية لتصدير ملوثاتها البيئية إلى العالم النامي. إن مواقف الدول النامية من الحماية البيئية ليست ثابتة، فهي تعتمد على الطريقة التي يضع قادة تلك البلدان أولوياتهم والخيارات المتوفرة لشعوبهم من حيث الموارد المتوفرة للخيارات المستديمة.
التاريخ: الثلاثاء5-5-2020
رقم العدد :997