شعراءٌ وألوان

ثورة أون لاين – د. ثائر زين الدين:

 كثيراً ما كنتُ أطرحُ على نفسي سؤالاً ينبغي أن يطرحه على نفسه أيُّ شاعر يرغبُ في تطوير تجربتهِ والسمو بها إلى مصاف الشعراء الكبار: “كيفَ أرى؟” أو بتعبيرٍ آخر: “كيفَ يمكن للكاتبِ أن يعيشَ مستخدماً حاسة البصر أجملَ استخدام”، وهو ليسَ سؤالاً جديداً على الإطلاق؛ فقد طرحتهُ على نفسها وغيرها الروائيّة والناقدة الأميركيّة من أصلٍ ألماني: غيرترود شتاين (1874-1946)؛ حينَ أرادت أن تتعلّم من بول سيزان: كيفَ تنظر، وكيفَ تكتب – كلماتِها- بعينيه، وهو ما حاوله بعدها بنحو خمسة عشر عاماً إرنست همنغواي حين كان يزورُ يوميّاً مُتحف “قصر لوكسمبورغ” في أثناء إقامته في فرنسا، ليتملّى لوحات سيزان ومانيه ومونيه وغيرهم؛ وقد عبَّر عن ذلك بصراحةٍ شديدة في السيرةِ الذاتيّةِ “لنيك آدمز” حين قال: “أرادَ أن يكتبَ مثلما رسمَ سيزان. أن يكتبَ عن الريف مثلما فعلَ سيزان في الرسم. ينبغي أن تفعل ذلك من داخلِ نفسك. لم تكن هناكَ أيّ حيلة. لم يكتب أحدٌ عن الريف بمثلِ هذا الشكل قط. لقد شعرَ نحوهُ بشعورٍ يكادُ يكونُ قُدسيّاً. كان في منتهى الجدّيّة. كان بوسعكَ أن تفعل ذلك لو أردتَ أن تحسمَ الأمرَ بالقوّة؛ لو أنَّكَ عشتَ بعينيكَ بصورةٍ صحيحة”.

وفي هذا السياق ينتبهُ بعضُ الشعراءِ إلى أهميّةِ عالمِ الألوان وجماله، وهو عالمٌ يسبحونَ فيه ويكوِّنونَ منه أشياءهم كلَّها؛ فلماذا يظلُّ بعيداً عن فضاءات شعرهم؛ بتجلِّياته كلِّها بدءاً من حضورهِ الواقعي البسيط وصولاً إلى استخداماتهِ التعبيريّة والنفسيّة والرمزيّة؟. ينتبه شاعر عربي سوري إلى أهمية ذلك، فيكتب بداية الثمانينيات قصيدة ” الأزرق والأحمر” ، ويُعَنون ديوانه الذي يضم هذه القصيدة بالعنوان نفسه… إنه محمد عمران، لنقرأ المقطع الأول من القصيدة:

” نبهّت من إغفائه الأزرق ْ:

( يا لون صوت حبيبتي/ كبر النهار، وأنت في حلم ٍ من الفستق ْ

كبر انتظار قصيدتي/ عتّقت، في شفتيّ، خابية ً فقمْ نسكر ْ

طفلي يفيق على منابته،/ فقم نسْكرْ )

الأزرق المخذول قام،/ مشى على ثقل ٍ،/ ترنّح،/ وارتمى في حضرة الأحمر ْ

والأزرق المقتول أرخى حلمه ُ/ وتوسد الأحمر”

ونحدس ونحن في بداية النص أن الشاعر فصل بين هذين اللونين تماماً واستخدم الأزرق رمزاً لكل جميل ونقي وطيب ٍ وخيّر، بينما جعل من الأحمر رمزاً لنقيض ذلك…. ويتأكد حدسنا بعد قليل حين نقرأ :

” ومشت ْ فراشات ٌ وأطفال إلى فرح المدارس،/ سرّحت لغةٌ جدائلها لأعياد الأغاني/ ومشت من الزرع السنابل باتجاه القمح …./ فجأة ينفجر الأحمر،

يغشى معطفُ النار المدنْ/ ويطوف الموت في الأعياد : هذي

شفةٌ، هذي ذراع ٌ، هذي جمجمةٌ،/ ساقٌ، بقايا رئة ٍ، هذي شظايا …

ذاك الدمُّ/ ذاك الدمُ …./ الأحمر ينداح على صدر الوطن ْ ..”

وهكذا يتصارع اللونان : الأحمر رمزاً للدمار والدماء والموت، والأزرق رمزاً للحياة والخير والنقاء … ويتداخلان … لكن الغلبة تكون للأحمر :

” … ينفجر الأحمر الأخوي ُّ،/يمزّق آخر خيط ٍ من الأزرق المتلاشي،

وألمح وجهك في جثة ِ الظلِّ طفلاً/ من الدم “

مشكلة هذه القصيدة بالرغم من اجتهاد الشاعر أنها كشفت رموزها منذ الأسطر الأولى وضاقت دلالات اللونين المهيمنين على فضاء القصيدة حتى انحصرت في خير وشر !!

هذا إذا استساغَ القارئُ هذا الترميز، بالانطلاق من طبيعة كل من اللونين المستخدمين؛ وهو ما ينقُضُه أدونيس في قصيدتهِ “الجنوب” المكتوبة عام 1984، والمهداة إلى الجنوب اللبناني: فهو وإن بدأ النصَ قريباً من أجواء عُمران؛ معَ تنويعٍ رأى فيهِ أنَّ الفجرَ بوصفِهِ حياةً جديدةً وحريَّةً إنما يخرجُ من الأحمرِ: الموت؛ إلّا أنَّهُ سرعان ما أخرجَ هذا اللون من دلالتهِ المحدودةِ؛ تلك التي رأتهُ رمزاً للعنفِ والدمارِ والموتِ فحسب إلى فضاءاتٍ أرحب؛ لعلَّها جاءت بتأثير فرحةِ تحرير الجنوبِ من المحتل الإسرائيلي:

1

لبسَ حُمرةَ الموتِ/ لذلكَ سُمِّيَ الفجر.

2

الأحمرُ / أجملُ كرسيٍّ للشمس.

3

جسدُهُ فكرةٌ / يكتُبها بالأحمر.

4

الأحمرُ أقربُ طريقٍ/ بينه وبينَ نفسهِ.

5

صعد الأحمرُ على درجِ أحلامهِ/ كانت الحريَّةُ تنتظره

في سريرٍ أخضر.

6

الأحمرُ وحده/ يعرفُ أن يكونَ/ تاجاً للورود.

7

للأحمر نسيجٌ/ بعضهُ فراشٌ للمكان

وبعضه قميصٌ للوقت.

8

قالَ الأحمرُ / أنا فرات الحسين.

9

الأحمر على الأرض / أخضرٌ في السماء،-

يتحوَّلُ/ لكنَّهُ لا يموت.

10

الألوانُ كُلُّها/ تُصلّي / فوقَ بساط الأحمر.

وقد بدأنا نرى في بعض شعر شعراء الثمانينيات العرب ومن تلاهم ميلاً واضحاً لاسترفاد خبراتهم وثقافتهم الفنية التشكيلية في النص على قلة هؤلاء، وحضرتِ الألوانُ كرموزٍ؛ كما رأينا في هيمنةِ اللون الأزرق مثلاً على شطرٍ من شعرِ صقر عليشي ونزار بريك هنيدي، ويتجلَّى ذلك واضحاً عندَ عليشي في قصيدتهِ: ” الأزرق” وعندَ هنيدي في قصيدةٍ طويلةٍ تحملُ عنوان “السيرة الزرقاء” ، تقعُ في عشرة مقاطع، و”ثلاثة هوامش”. وقد أطلقَ الشاعرُ هذا العنوان أيضاً على كتابٍ ضمَّ مختاراتٍ شعريّة له، ومن يقرأ القصيدةَ المذكورة يكتشفُ أن (الأزرقَ) يتجاوزُ حدودهُ كواحدٍ من ألوانِ الطبيعةِ إلى ما هو أبعدُ من ذلك بكثير فيبدو رمزاً لذاتٍ كبرى… ذات عُليا؛ وهو وإن قدَّم لقصيدته هذهِ حين أعاد نشرها باستهلالٍ نثريٍّ يقولُ فيه: “بدأت الحياةُ من البحرِ والبحر أزرق، وينتهي الكونُ في السماء والسماءُ زرقاء. للنارِ قلبٌ أزرق، وللنورِ هالةٌ زرقاء. للحبيبةِ عينانِ زرقاوان، وللعاشقِ حلمٌ أزرق. عروقُ الجسد زرقاء والحبرُ أزرق”؛ إذاً إن كان الشاعرُ قد قدَّم لقصيدتهِ بالكلمات السابقة وهي تُهدي القارئِ مفاتيحَ مهمَّة “للسيرةِ الزرقاء”- التي أظنُّها المعادل الفني الرمزي لسيرةِ حياةِ الشاعر- فإنه يُسبِغُ على الأزرقِ من عوالمِ الغيبِ ما يجعلُه رمزاً – كما قلت من قبل- لذاتٍ فوقَ عالم البشر؛ إنَّهُ يطلبُ إلى الأزرقِ أن يُعلِّمَه الأسماء؛ وهو يُحيلنا شئنا أم أبينا إلى ما جاءَ في القرآنِ الكريم: “وعَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها، ثمَّ عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين”، وهو يطلبُ منه أيضاً أن يمدَّ بساط البحرِ فيمشي فوقَ الماءِ؛ بما يذكِّرُنا أيضاً بما جاءَ في الأناجيلِ من سيرِ يسوع المسيحِ فوق مياهِ طبريّا، وهو يطلبُ إليهِ أيضاً أن يُمرِّرَه في النار؛ بما يُعيدنا إلى قصّةِ النار التي كانت برداً وسلاماً على إبراهيم؛ ثم يطلبُ إليهِ أيضاً أن يرفعَ عن عينيه الأستار؛ كناية عن جعلِه رائياً؛ يبصر المستقبلَ…

 

والحقيقة أن هذا اللون سيطرَ ويسيطرُ على عوالمِ كثيرٍ من الفنانين والشعراء، فمن لا يذكر المرحلة الزرقاء في إبداع بيكاسو، ومن لا يلفتهُ الحضور والتردُّدِ الكثيف لهذا اللون في قصائدِ الشاعرة آنّا أخماتوفا (1889-1966)، بصفته الطبيعيّة أو بمرموزيَّته.

 

ولقد عَرَفَ الشعِرُ قبل الزمن الذي نتحّدث فيه بكثير، وبالتحديد عام 1872 تجربةً شعريّةً على درجة كبيرة من الجسارة في هذا السياق، لقد حاولَ صاحبها – على ما يبدو – أن يحوِّلَ الحروفَ إلى ألوان، في محاولة للبحث عن اللغة الشعرية القادرة على التعبير عن الحواس كلها في وحدةٍ كامنة. إنه آرثر رامبو ( 1854- 1891) والقصيدة التي أعنيها هي “حروف اللين”.

 

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة