لا يمكن الحديث عن إقامة نظام دولي جديد يخلف النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي تزحزح قليلاً بعيد سقوط وتحلل الاتحاد السوفييتي السابق إلا بتغير حقيقي أو تبدل جوهري في موازين القوى الدولية وهو يعني في الوضع الراهن صعود قوة كبرى تنافس الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً واقتصادياً، وتتبنى سياسة مختلفة عن تلك التي تتبناها في إدارتها للعلاقات الدولية والقائمة على فكرة القوة والهيمنة استثماراً بفائض قوتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية وهنا يمكننا الإشارة إلى ما قاله الفيلسوف اليوناني توسيديد المتوفي سنة 395 قبل الميلاد من أن بروز قوة جديدة في العالم يتم على حساب قوة قائمة ويقود غالباً إلى نزاع وقد يحل ذلك سلمياً اذا كانت القوتان تتقاسمان القيم نفسها.
وواقع الحال أن ثمة هوة قيمية وثقافة سياسية مختلفة يمتلكها ويمارسها كل من الأميركي والصيني ما يرجح احتمال المواجهة العسكرية والصدامية بينهما وفي حال فوز الصين ستشكل نظاماً عالمياً جديداً مختلفاً إلى حد كبير عن النظام العالمي القائم راهناً وأدواته وعناصره مجلس الأمن بتشكيلته الحالية وصندوق النقد الدولي ومحكمة العدل الدولية ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من الإرث المؤسساتي لحقبة الحرب الباردة .
لقد أشار التقرير السنوي لحالة الاتحاد في الولايات المتحدة الأميركية لعام 2020 بشكل علني إلى أن جمهورية الصين الشعبية تشكل المنافس والعدو الأول للولايات المتحدة الأميركية علما أنها شريكها التجاري الأول ، وهذه من مفارقات السياسة ولعل هذا التوصيف هو الذي يفسر التصويب الأميركي الدائم على الصين في المحافل الدولية ولعل آخرها جائحة كورونا واتهام الصين بتصنيع الفيروس وتصديره للعالم إضافة إلى الحرب التجارية التي يشنها الرئيس ترامب وفريقه الرئاسي على الصين بهدف محاصرتها وإضعافها اقتصادياً، والحد من نفوذها على مستوى العالم وهي التي تتبنى سياسة تقديم المساعدات المالية والفنية والتقنية لدول العالم الثالث ولاسيما دول آسيا وأفريقيا وتعمل على إعادة تفعيل طريق الحرير بمسمى الحزام والطريق بهدف ربط دول العالم بشبكة اتصالات تمد جسور التعاون بينها وتقلل من سيطرة الولايات المتحدة على طرق المواصلات البحرية والنقل الجوي والقواعد العسكرية المنتشرة في كل قارات العالم ،علماً أن جمهورية الصين الشعبية تعمل منذ فترة على توسيع وتطوير أسطولها البحري لحماية مجالها في أعالي البحار في ظل استراتيجية و نهج أميركي قائم على محاولة محاصرتها والتضييق عليها في بحر الصين وجنوب المحيط الهادي باستمالة كل من اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وأستراليا والهند حيث تدرك أميركا أن تحول الصين من قوة قارية إلى قوة بحرية هو شرط لتصبح قوة عالمية شاملة .
لعل ما يثير حفيظة الولايات المتحدة الأميركية هو أن الصين أصبحت المصنِع الأول في العالم وانتقلت من سياسات تتسم بالحذر والبعد الإقليمي إلى سياسة ذات مروحة علاقات دولية ومكثفة اقتصادية وعسكرية ومالية ومواقف جريئة في المحافل الدولية بمواجهة لغة الغطرسة الأميركية ، تساوق ذلك مع سعي الصين لتقديم نموذج علاقات يختلف عن النموذج الغربي ويعتمد على سياسة تقديم مساعدات دون شروط سياسية وتدخل في الشأن الداخلي يحترم سيادة الدول كإنشاء البنك الآسيوي للتنمية والبنك الآسيوي للاستثمار والبنى التحتية لتقديم مساعدات مالية لدول العالم وتخليصها من سطوة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للاستثمار والتنمية ، وهما احدى أدوات الهيمنة الأميركية على دول العالم إلى جانب تقديم الصين لقروض ميسرة لدول العالم تزيد على 160 مليار دولار لإشادة البنى التحتية لمشروع الحزام والطريق الذي سيشكل نواة لربط قارات العالم بشبكة علاقات اقتصادية تبادلية المنافع تكرس وتقيم جسوراً للتعاون بين شعوب العالم بدل أسوار الكراهية .
إن ما يجري بين الصين الشعبية والولايات المتحدة الأميركية هو مواجهة مركبة اقتصادية وعسكرية وتجارية وسياسية ولم تقف عند تلك الحدود بل وصلت إلى الفضاء ، حيث تخطط الصين الشعبية لإرسال مسبار إلى كوكب المريخ الذي يبعد عن الأرض مسافة 55 مليون كم وذلك في شهر تموز المقبل وأطلق عليه -تيان وين – ومن المتوقع أن يصل إلى مداره بعد سبعة أشهر بهدف إجراء دراسات عن الكوكب ما حدا بالولايات المتحدة الأميركية عبر وكالة الفضاء الأميركية للاستعداد لإرسال مركبة فضاء استكشافية ما بين شهري تموز وآب القادمين لتصل إلى المريخ مطلع العام القادم ، أي بالتزامن مع وصول المسبار تيان وين وهذا يعيد إلى الأذهان المنافسة الفضائية بين أميركا والاتحاد السوفييتي زمن الحرب الباردة عندما سبق السوفييت بداية الأميركان في غزو الفضاء عبر المركبة سبوتنيك ، ما حدا بهم إرسال أول مركبة فضائية حطت على سطح القمر – أبولو ثمانية في تموز عام 1969 ما جعل السوفييت يقومون بإرسال المركبة الفضائية -لونا خود – إلى ذات الجهة وهي غير مأهولة عكس أبولو التي حملت رواد فضاء حطوا على سطح القمر لتستعر حرب نجوم بين الطرفين زادت من أوار الحرب الباردة وهنا تجدر الإشارة إلى ما حذر منه وزير خارجية جمهورية الصين الشعبية وانغ ييي من إرهاصات أولى لحرب باردة جديدة تسعى أميركا لإشعالها استثماراً في فشلها بمواجهة وباء كورونا ، والإلقاء باللائمة على جمهورية الصين الشعبية او محاولاتها التدخل في شؤون الصين الداخلية عبر التحريض في التيبت وكشين جيانغ وهونغ كونغ أو الإشادة بإقليم تايوان المقتطع من جغرافيتها الوطنية وغير المعترف عليه في الأمم المتحدة .
إضاءات – د. خلف المفتاح