“بجماليون” وبدوي الجبل

ثورة أون لاين – د.ثائر زين الدين:

ألهمتْ أسطورةُ بجماليون الإغريقيّة – التي عادَ إليها الشاعر الروماني أوفيد (43 ق.م.- 17 م) ونظمها شعراً في كتابهِ الشهير “التحوّلات”- كثيراً من النحاتين والمصوِّرين فأبدعوا أعمالاً فنيَّةً جميلة منها لوحةُ جان راوكس “بجماليون وجالاتيا”، الموجودة في اللوفر، وتمثال ” بجماليون وجالاتيا” الذي أنجزهُ الفنان إيتين موريس فالكونت عام 1763 م، وهو من مُقتنيات الإيرميتاج ، والطريفُ في الأمر أنَّ هذهِ الأعمال التشكيليّة عادت فألهمت بدورها كتاباً وشعراءَ فأبدعوا نصوصاً أدبيّةً موازيةً.
يكتبُ توفيق الحكيم في مقدمةِ مسرحيَّتهِ الشهيرة “بجماليون”:
“إن قصة بجماليون هذهِ تقومُ على الأسطورة الإغريقية المعروفة، ولعلَّ أوَّلَ من كشفَ لي عن جمالها تلكَ اللوحة الزيتيّة بجماليون وجالاتيا بريشة جان راوكس المعروضة في متحف اللوفر. ما إن وقع نظري عليها منذ نحو سبعة عشرَ عاماً حتّى حرَّكت نفسي فكتبت وقتئذٍ قطعة “بين الحلم والحقيقة”. وكنت آمل أن أعود يوماً فأضع كل ما خامرني منها في عملٍ أكبر وأرحب”.
وكان جورج برنارد شو قد سبقَ الحكيم بنحو ثلاثين سنة حينَ كتبَ مسرحيَّته “بجماليون” وعُرضت للمرةِ الأولى في فيينا عام 1913 ثم في لندن عام 1914، وقُدِّمت فيما بعد فيلماً بعنوان” سيدتي الجميلة” عام 1938، شاهده الحكيم فذكَّرهُ باللوحةِ وهواجسهِ القديمةِ في كتابةِ مسرحيّةٍ.
ولم يتوقَّف تأثيرُ الأسطورة وأعمالها الفنيّة الكثيرة على المسرحِ والفنون النثريّة بل لعلَّ الشعرَ كان أكثر استجابةً؛ حتى عندنا نحن العرب، ويمكننا أن نذكر في هذا السياق – ومنذ النصفِ الأول من القرن العشرين- قصائدَ: أحمد زكي أبو شادي، وعلي محمود طه، وبدوي الجبل، وعمر أبي ريشة، وبديع حقّي.
تقولُ الأسطورة:
إنَّ بجماليون النحّاتُ يصنعُ تمثالاً عاجيّاً، فيصوغه أكثر جمالاً من النساء جميعاً، وإذا بهِ يقعُ في غرامه. هام به ومضى يُداعبه برقَّةٍ، شاكاً في لحظاتٍ كثيرة بأنَّهُ امرأة من لحم ودم، وليسَ قطعةً من عاج فحسب، وحين بدأت أعياد فينوس تقام في أنحاء قبرص محاطة بالأبهة والجلال، جاء بجماليون يقدم قربانه ويصلي في خشوع بجوار المذبح راجياً فينوس أن تمنحه “زوجةً شبيهة بالعذراء العاجيّة”. فطنت فينوس الذكيّة العالمة بأسرار قلوبِ العشاق إلى ما يقصده بتضرُّعه، واستجابت لدعائه فبعثت المرأة العاجيّة حيّةً. وأعدت لهما عُرساً شهدته، وبعد أن اكتمل القمرُ مراتٍ تسع وضعت عروس بجماليون طفلاً أسمته بافوس، وأُطلقَ هذا الاسمُ فيما بعد على الجزيرة (قبرص).
في ديوان بدوي الجبل قصيدة تبدو غريبةً بين نتاجه هي: ” الدمية المحطَّمة”، إنَّها نفثةُ مَصْدُورٍ، صرخةُ مكلومٍ؛ ولا شكَ عندي أنَّ الشاعرَ كتبها في لحظةِ خروجٍ من قصَّةٍ حبٍّ فاشلٍ، ملؤه خيبةُ الأمل؛ وانهيار الأماني، وهو ما لم يتخيّله ولم يخطر في باله؛ لقد صنعَ دميته بيديه – كما فعل بجماليون- ووضعَ فيها أحلامَه وأهواءَه وكلَّ جميلٍ ادخرهُ لها، ولكنَّهُ – في خروجٍ عن الأسطورة- نفثَ الحياةَ فيها من روحه؛ هو لم يتضرَّع لفينوس أو سواها كي تبعثَ الدمَ في عروقِ تمثاله، وكيفَ يفعل! أليسَ المبدعُ خالقاً بذاته؟! ولهذا ستكون الصدمة أكبر بكثير حين يُضطرُّ إلى تحطيمِ ما صنعت يداه، تحطيمَ جبّارٍ؛ بيدهِ أن يخلقَ وبيدهِ أن يُدمِّر:

أيا دُميةً أنشأتُها وعبدتُها كما عبد الغاوون منحوتَ أحجارِ
سكبتُ بها روحي وأهواءَ صبوتي وألوان أحلامي وبدعةَ أطواري
جمعتُ بها الدّنيا فكانت سلافتي وكأسي وندماني وأهلي وسمّاري
ونامتْ على الحلم المريح بمقلتي وهدهدها عطري وحبّي وإيثاري
ويا دميةً أنشأتُها ثمّ حطّمتْ يدايَ الذي أنشأتُ تحطيمَ جبّار
في المقطعِ الأولِ من القصيدة أعلاه أوجزَ لنا البدوي قصَّته مع دميته، ليتابعَ في المقاطع الثلاثة التالية سردَ الحكايةِ بضميرِ المتكلَّم، مُتوجِّهاً بخطابهِ إلى تلكَ المرأة، التي لا يجعلنا نرى أي جميلٍ فيها إلّا وهو من إبداعهِ وحده ولا فضلَ لها فيه، حتى حين يوشكُ هذا الاعتدادُ بالنفسِ يخبو قليلاً وهو يصفُ ثغرها ” فيا لمنمنمٍ نديّ بأنفاس الرّياحين معطار” يفاجِئنا أن هذا الثغرَ ما كان له أن يكون بهذهِ الرقّة والعذوبة لو لم يكن من حانِ الشاعر/ المَثّال:
جمالك من سحري وعطرك من دمي وفتنتك الكبرى خيالي وأشعاري
وثغرك من حاني فيا لمنمنمٍ نديّ بأنفاس الرّياحين معطار
ألمّ به إثمي فندّاه بالمنى و مرّ به وَهْناً فطيّبَهُ عاري
خلقتك من أهواء نفسي ونوَّعتْ بك الحسن أهوائي وحبّي وأوطاري
فما يشتهى خدّاك إلا لأنّني تركت على خدّيك إثمي وأوزاري
و ما أسكرت عيناك إلا لأنّني سكبت بجفنيك الغويّيْن أسراري
الدميةُ إذاً ليست شيئاً بذاتها، إنَّما هي مخلوقٌ حقير جاحد، لم يُقدِّر ما وهبه إياه الخالق، إنها أشبه بالكفرةِ في الدياناتِ السماويّة؛ ممن لا يُقدِّرونَ نعمَ الباري عليهم. 

وكلُّ تلكَ الغضبة “المُضريّة” لأنَّ المرأة أنكرتِ الشاعر/ الخالق، لقد أنكره الحسنُ الذي صاغه بيديه:
أينكرني حسن خلقت فتونه فيخنقني عطري وتحرقني ناري
وتنكرني: يا غضبة الشعر والهوى ويا غضبة الدنيا ويا غضبة الباري
وعليهِ فمن حق الخالقِ أن يُدمِّرَ مخلوقه؛ أن يُعيدَه إلى الطين الوضيع الذي جُبلَ منه غيرَ آسفٍ على شيء:
رددتك للطين الوضيع وما حنا على روضك الهاني هبوبي وإعصاري
وفارقتُ إذ فارقتك الطينَ وحده وعادت إلى نفسي عطوري و أنواري
إنَّ هذهِ النظرة إلى المرأة تبدو غريبةً جداً لمن عرفَ قصائد بدوي الجبل الفاتنة في المرأة؛ التي قدَّمتها أسمى وأجمل وأرق الكائنات، التي قدَّمتها ” خالقة”، وملهمة، ومصدر فرحٍ وبهجةٍ، فهل هو تأثيرُ الأسطورةِ؟ أم تأثير اللوحة التي شاهدها الشاعرُ في اللوفر.
وهذا الانحراف الجديدُ عن الأسطورةِ نفسها، وعن الأعمال الفنيّة المُستلهمة منها ألا يُذكِّرُ ببجماليون عندَ توفيق الحكيم؟ هناكَ طلبَ الفنان من الآلهة أن تعيدَ جالاتيا إلى تمثالٍ من العاج، حين أحسَّ أنها أصبحت امرأة مثل سواها، قادرة على خيانته، وتفضيلِ عشيقٍ عليه، في إيحاءٍ إلى أنَّ إبداع الفنّان أنقى وأطهر مما تبدعه الآلهة، وحين قبلت الآلهةُ التحدي وأعادت جالاتيا إلى أصلها الجامدِ؛ وندم بجماليون على فعلته، فتألم لفراقها، رفضت فينوس أن تبعثَ فيها الحياة من جديد، فما كان من بجماليون إلا أن هوى بمطرقتهِ على رأس التمثال وحطَّمه في نوبةٍ من نوباتِ غضبه.

آخر الأخبار
تعاون اقتصادي وصحي بين غرفة دمشق والصيادلة السعودية: موقفنا من قيام الدولة الفلسطينية ثابت وليس محل تفاوض فيدان: الرئيسان الشرع وأردوغان ناقشا إعادة إعمار سوريا وأمن الحدود ومكافحة الإرهاب رئيس مجلس مدينة اللاذقية لـ"الثورة": ملفات مثقلة بالفساد والترهل.. وواقع خدمي سيىء "السكري القاتل الصامت" ندوة طبية في جمعية سلمية للمسنين استعداداً لموسم الري.. تنظيف قنوات الري في طرطوس مساع مستمرة للتطوير.. المهندس عكاش لـ"الثورة": ثلاث بوابات إلكترونية وعشرات الخدمات مع ازدياد حوادث السير.. الدفاع المدني يقدم إرشادات للسائقين صعوبات تواجه عمل محطة تعبئة الغاز في غرز بدرعا رجل أعمال يتبرع بتركيب منظومة طاقة شمسية لتربية درعا حتى الجوامع بدرعا لم تسلم من حقد عصابات الأسد الإجرامية المتقاعدون في القنيطرة يناشدون بصرف رواتبهم أجور النقل تثقل كاهل الأهالي بحلب.. ومناشدات بإعادة النظر بالتسعيرة مع بدء التوريدات.. انخفاض بأسعار المحروقات النقل: لا رسوم جمركية إضافية بعد جمركة السيارة على المعابر الحدودية البوصلة الصحيحة خلف أعمال تخريب واسعة.. الاحتلال يتوغل في "المعلقة" بالقنيطرة ووفد أممي يتفقد مبنى المحافظة الشرع في تركيا.. ما أبرز الملفات التي سيناقشها مع أردوغان؟ بزيادة 20%.. مدير الزراعة: قرض عيني لمزارعي القمح في إدلب تجربة يابانية برؤية سورية.. ورشة عمل لتعزيز الأداء الصناعي بمنهجية 5S