الثورة – سعاد زاهر:
لعل أكثر الأوقات قتامة نتجاوزها حين نعمد إلى القراءة والكتابة، معتنقين قول الكاتب البرازيلي باولو كويلو في حكمته التي تلقفناها عبر كتابه الخيميائي، وكتب أخرى “الدّموع هي كلمات يجب كتابتها”، وربما حينها تتحول إلى جمل لا تنسى تحفر في ذهن القارئ كأيقونة مهداة له، كي تزول دموعه في وقت شدته. ذلك الوقت حين تزلق الأحرف وتتلاقى كأنها تنشد أغنيتك الخاصة لتكون أنت في كل حالاتك، لكن من دون أن تستوطن لديك أياً منها، ما يهمك أن تنزلق تلك الحالات لتأخذك إلى أماكن أكثر قوة لتردد قول الأديب اسحق اسيموف “إذا أخبرني طبيبي أنّ أمامي ستّ دقائق فقط للعيش، فلن أحتضر، سأكتب أسرع قليلًا” هي بعض من الأفكار التي وردت على لسانه في سيرته الذاتية التي كانت عبارة عن مقالات وجمعتها زوجته بعد رحيله في كتاب “it.s been a good life”.
نتفرد عبر الكتابة، لا نختط الأحرف، بل نختط ذاتنا، ونسكب روحنا، وننزلق نحو العلا تارة، والبحر تارة أخرى، غير عابئين بشيء، سوى متعة الكلمات كي تخلد اللحظة بدقة كيميائي يزن كل نسبه الذهنية والعاطفية مبرمجاً كل حواسه لخدمة تلك اللحظة المشحونة عاطفياً إلى الحد الأقصى لنثبت ما قاله الأديب الأميركيّ وليام إتش غاس “الكيميائيون الحقيقيون لا يحوّلون الرّصاص إلى ذهب، بل يحوّلون العالم إلى كلمات”.
كلماتنا هي ندبنا، جروح أسالتها أقلامنا كي نشفى، من امتحانات الحياة، وعقباتها، من كل هذا الفقدان، والعبثية، واللا جدوى، وكل تلك لحظات الخيبة، وخساراتنا اللانهائية.. طالما نحيا، ستبقى تلك الكلمات لحن خاص بنا، نحن من نعتق الكلمة وأناشيدها، المتلاصقة بأناشيد الحياة، وملماتها. إذاً ما الذي سيفعله بنا كل هذا الضجيج المنبعث من تلك الآلات التي تريد أن تسابقنا، بل حكماً ستسبقنا، كم كلمة نستطيع أن نكتب يومياً..؟ حتى لو تفرغنا، لو لم نفعل أي شيء سوى أن نكتب ثم نكتب متغافلين عن النوم، والأطعمة ومختلف الواجبات..؟ لا شيء يذكر مقارنة بتلك الإمكانيات الهائلة التي يمكن لمختلف التطبيقات وخوارزمياتها وبياناتها المبرمجة إلى ما لانهاية، هي لا تهدأ، لا تكل، لا تمل، لا تتعب، حتى لو حاولت فصل الكهرباء عنها، أو الانترنت، هناك مستخدمون غيرك يلجؤون إليها بل الملايين منهم، في الوقت عينه.
فعلاً إنها مقارنة قاسية، ظالمة، نكتشف فيها، محدودية القدرة البشرية في مواجهة آلات الذكاء الاصطناعي التي لا تركن على حال، كل يوم اختراع جديد، تحديث آني.. لنجربها، وننفعل معها، ونتجرد من كل تلك الخبرات التي عرفناها يوماً من مواهب ثبت خلودها، ماذا نكتشف..؟ إنها عاجزة عن كتابتنا كما يحلو لنا، تسبقنا تقنياً، زمنياً، بالقدرة، لكنها تفتقر للروح، هي لا تكتب ودموعها تنتشي على خدها، لا تشعر بحرقة فقدان لا ينسى ما حيينا، ولا بلوعة عاشق تلاشى أمله. تبرمج لتكتبنا بلا مشاعر، بتشابه، بنمطية، نحن نختار تلك الأوقات الميتة كي تكتبنا من دون حكمة كل أولئك الكتاب الذين ما زالت اقتباساتهم تحيي الروح وتنقذنا في لحظة قاتمة، ربما لن تتمكن الآلات بكل ذكائها الصناعي يوماً من فعلها.