ثورة أون لاين -غصون سليمان:
يقودني الحنين إلى شباك ونوافذ تلك الأيام التي تركت في نفوسنا محطات غنية من ذكريات طفولة ويفاعة، وعمل شباب متحمس للدراسة والإنتاج والانجاز”فأصل الفتى ماقد فعل”كما يقولون ..يوم كانت الحياة- لاسيما الريفية منها -عامرة بكل شيء، ومتشابهة بتفاصيلها واطارها العام إلى حد كبير ..بساطة في المأكل والمشرب والعلاقات المتبادلة بين الناس،لكنها غنية وكبيرة بحوامل القيم والأخلاق وإحساس الأبناء بآبائهم وأجدادهم..وشعور الأخ بأخيه و الجار بجاره،والقريب بقريبه،والصديق بصديقه ،يتقاسمون الأفراح والاتراح،يخففون عن بعضهم الهموم والأحزان ،يتشاركون ،يتعاونون،يتنافسون لتقديم الأفضل .
كان مفهوم الحياة برحمتها وجمالها وأفقها أوسع بكثير في رسم تفاصيل المستقبل والعمل من أجله بكل تفان وحضور وبحث في كل ذرة اجتهاد..
حنين موجع إلى تلك الجماليات الاجتماعية التي كانت تلقي بثقلها المعنوي والحياتي في نفوس الجيران ومجتمع” الحارة” والتي تكاد تكون القرية كلها، بدءا من قيلولة الاستراحة بعد التعب في الأرض، إلى استنفار النسوة على دور” التنور “لخبز العجين الذي لايحتمل التأجيل.
فتأخذ النسوة بمساعدة بعضهن البعض من أجل السرعة واختصار الوقت ،والأمر الأجمل والمؤثر هو ذاك الفعل الذي يحفر في الذاكرة صور ومشاهد توحي بكم هو فعل الخير ناصع حين يكون دافعه المروءة والإنسانية ..عندما تتبرع بعض الصبايا للقيام بعمليات خبز العجين لكل من لم تستطع صاحبته القيام بذلك لظروف صحية أو غيرها ،دون أي مقابل ،إنه حالة تطوع نفسية وشخصية وذاتية متقدمة على كثير من المصطلحات والمسميات التي تطورت مع تغيرات وظروف الحياة .
أيام مضت كانت الرحمة والرأفة طاغية على تفاصيل الحياة الاجتماعية ،وخصب الأرض التي كانت تعانقها سواعد الشباب والرجال والنساء من الفجر حتى المساء ،ترد جميلها بجني المحصول الوفير بكل أصناف المزروعات من خضروات وحبوب وغيرها.
كانت الأمانة سلوكا ونهجا يتعلمه الصغار قبل الكبار ،فعلى سبيل المثال لا الحصر اذا فقد ،أو أضاع أي شخص كان “مبلغا ماليا ،أو ساعة يد،أو أي حاجة ضرورية من أدوات العمل والبناء ” يخرج المنادي عصرا او وقت المغرب ،وينادي بأعلى الصوت ،مرددا عبارة ياسامعين الصوت “من وجد كذا وكذا عليه أن يعيده إلى فلان الفلاني” وحين يعود يعود مافقد لصاحبه يعود المنادي ويشكر على الملأ من رد الأمانة المفقودة لصاحبها.
هي ذكريات من وجع والم وسرور..طغت عليها تناقضات الحياة ، وبشاعة صورها لاسيما في ظروف طغيان المادة واستثمار تداعيات حرب عدوانية قذرة،تركت آثارها القبيحة على جميع درجات سلم الحياة