ثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
ما يميز السياسيين الأميركيين عموماً أثناء وجودهم في مواقع المسؤولية هو عداؤهم للحقيقة ومجافاتهم للمنطق وممارستهم شتى أنواع التضليل والكذب لخدمة السياسة الأميركية الاستعمارية العدوانية، وكأن للمنصب الرسمي في الولايات المتحدة شروطاً خاصة تحول صاحبه إلى ذئب لا تعنيه قيم إنسانية أو مبادئ أو أخلاق، غير أن اللافت والصادم هو استيقاظ ضمائر البعض منهم بعد انتهاء مهامهم وخروجهم من المنصب والإدلاء بسير ذاتية ومذكرات بعيدة كل البعد عما مارسوه في حياتهم، ولعل الأمثلة أكثر من أن نحصيها.
فخلال ولاية ترامب ــ التي لم تنته بعد ــ استقال العديد من موظفي البيت الأبيض والعديد من الوزراء والمستشارين وأدلوا بتصريحات، وأعدوا كتباً عن الفترة التي قضوها معه أشعلت جدلاً واسعاً في الشارع الأميركي وفي العالم أيضاً، لكثرة ما فيها من شهادات كشفت الطريقة الحمقاء والمجنونة التي تدار بها السياسة الأميركية حول العالم.
وكان آخر المقالين أو المستقيلين مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي يقف على يمين ترامب في اتخاذ القرارات المثيرة للجدل، وقد كشف هذا المستشار المتطرف عن الفوضى والمزاجية التي يتخذ بها ترامب قراراته والتي حولت العالم إلى مسرح للصراعات والخصومات والعداوات التي تهدد مستقبل وأمن البشرية، حيث لا ينقص ترامب وفريقه أي قدر من الحماقة لارتكاب المزيد من الجرائم والحروب وإشعال وتأجيج المزيد من الأزمات بحجة الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك من ادعاءات لم يعد أحد في هذا العالم يصدقها، لاسيما وهو يشاهد الأميركيين يرتكبون الفظائع والمحرمات على مساحة الكرة الأرضية ويحولون العالم إلى بؤر من الصراعات والفوضى التي لا نهاية لها.
قبل أن ينهي الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ولايته الثانية عام 2016 وجه كلمة للشعب الأميركي تحدث فيها عن “إنجازات” إدارته، ومما قاله تفاخراً إن واشنطن هي من وأد الإرهاب زمن ما يسمى “الربيع العربي” الذي كان يهدد مصالح أميركا وحليفتها إسرائيل على حد زعمه، رغم أن الجميع بات يدرك تمام الإدراك أن كل المصائب التي حدثت خلال هذا “الربيع” الأسود من تدمير ليبيا واليمن والعراق وإضعاف مصر وسورية ولبنان وصولاً إلى تقسيم السودان وتفتيته كان من تخطيط وتنفيذ الاستخبارات الأميركية وعملائها في المنطقة، وأن كل التنظيمات الإرهابية التي ارتكبت الفظائع من تنظيم القاعدة إلى تنظيم داعش وصولاً إلى الإخوان المسلمين وبقية المسميات التكفيرية كانت تعمل تحت إمرة واشنطن لنفس الغاية وهي تدمير المنطقة وإضعاف دولها وشعوبها كرمى لعيون إسرائيل، وهذا ما أتى على ذكره أوباما بالحرف الواحد في كلمة الوداع.
اليوم تقترب ولاية ترامب من نهايتها والعالم أكثر فوضى وصراعات وتهديدات ومخاطر من حقبة أوباما بسبب السياسات الأميركية العدوانية والاستعمارية، فماذا يمكن أن يقول ترامب في مذكراته إذا فشلت مخططاته بالحصول على ولاية ثانية، حيث من الجائز أن يقدم على ذلك وهو الأكثر تبجحاً بالحديث عن “عدالة” أميركا الزائفة و”دفاعها” عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان و”محاربة” الإرهاب، ربما لن يحتاج إلى كتابة مذكرات أو سيرة ذاتية لأن تغريداته وتصريحاته وأفعاله وكل ما قاله فيه أركان إدارته المستقيلون تشكل أسوأ مذكرات يمكن أن يكتبها رئيس أميركي على مر التاريخ، وقد تكررت مقولة أن ترامب أسوأ رئيس أميركي في التاريخ كثيراً في الآونة الأخيرة.
ولكن لنفترض جدلاً أنه كتب مذكراته وكان صريحاً ووقحاً فيها فماذا سيكتب..؟ ربما سيقول أنا الرئيس الذي جاء بالتزوير إلى البيت الأبيض، والأكثر وقاحة خلال المناظرات الرئاسية، وأنا الرئيس الأكثر خصومة مع وسائل الإعلام والصحفيين، الرئيس الأكثر تعرضاً لمحاولات العزل بسبب حماقاته وارتكاباته وعلاقاته المشينة، الرئيس الأكثر تدخلاً في شؤون الأميركيين وقمعاً لحرياتهم، الرئيس الأكثر عنصرية والأكثر توجيهاً للاتهامات لخصومه ومعارضيه، والرئيس الذي شهد أوسع حملة استقالات في ولايته، والرئيس المسؤول عن تفشي وباء كورونا في بلده وقتله مئات الآلاف وإصابة الملايين.
هذا داخلياً أما خارجياً فثمة الكثير يمكن أن يقال، إذ يعتبر ترامب الأكثر تدخلاً في شؤون الدول الأخرى والأكثر توجيهاً للوم والاتهامات بحق الدول الأخرى، الأكثر استفزازاً لحلفائه باستثناء “إسرائيل” لأنه الأكثر دعماً لها، الأكثر إهانة لحلفائه العرب، الأكثر دعماً للإرهاب واستثماراً فيه، الأكثر فرضاً للعقوبات المالية والاقتصادية على الدول والشعوب “حتى حلفائه لم يسلموا منها”، الأكثر تجويعاً وحرقاً للمحاصيل الزراعية في سورية والأكثر تدميراً لبنيتها التحتية وعرقلة لحل أزمتها، الأكثر تنصلاً من المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية والأكثر انسحاباً من المنظمات الدولية، الأكثر تغريداً بغباء على وسائل التواصل الاجتماعي، والأكثر
تهديداً بخوض الحروب والأكثر تراجعاً عنها..!
لكن يمكن أن يسجل في مذكراته أنه أكثر رئيس أميركي عرّى السياسة الأميركية وفضح نياتها الخبيثة وقدمها بدون أقنعة.. ومع ذلك ربما ينجح بولاية ثانية.!