حين أشعُرُ بنضوبٍ وجفافٍ في لغتي أعودُ إلى الشعرِ العربي القديم، فأقرأُ منهُ ما تقعُ عليهِ يداي، وأحاولُ حفظَ بعضِهِ، اليوم فتحتُ الجزء 18 من كتاب “الأغاني” فقرأتُ في الصفحة 143 خبرَ شاعِرٍ اسمُهُ “عمرو بن قميئة”، وهو أقدمُ من امرئ القيس، ويروي الأصفهاني “إنّه أوّل من قالَ الشعِر في نزار، وقدْ لقيهُ امرؤ القيس في آخر عُمره فأخرجَهُ معهُ إلى قيصر، لمّا توجّهَ إليهِ فماتَ مَعَهُ في طريقه، وسمّتهُ العربُ عمرواً الضائع، لموتِهِ في غُربةٍ وفي غيرِ أربٍ ولا مطلب”.
المهم في الأمر أنني قرأتُ الأبيات الجميلة الآتية التي قالها عمرو وقد بلغَ التسعين:
كأنّي وقد جاوزتُ تسعينَ حُجّةً خلعتُ بها عَنّي عِنانَ لجامِ
رمتني بناتُ الدهرِ من حيث لا أرى فكيفَ بمن يُرمى بغيرِ سهامِ
فلو أنّها نبلٌ إذاً لاتّقيتُها ولكنّما أُرمى بغيرِ سهامِ
وأهلكني تأميلُ يومٍ وليلةٍ وتأميلُ عام بعدَ ذاكَ وعامِ
فأدهشني جمال هذهِ الأبيات، وعمقها الإنساني والوجودي وبساطة مفرداتها والأرجحُ أن صاحبها ولد عام 448 م، ولعلّهُ كتبَ هذهِ الأبيات نحو 538 م أي قبلَ 1482 سنة فباللهِ عليكم… ألا تحسّونَ أنها كتبت البارحة؟، ثُمّ ما هذهِ اللغة الغريبة العجيبة التي مازالت حيّة منذ أكثر من ألف وخمسمئة عام، ويستطيعُ أبناؤها أن يقرؤوا نصاً كُتبَ بها منذ ذلك الوقت وقد لا يحتاجون إلا لفتح معجمِ بحثاً عن بضع مفرداتٍ حتى يفهموا المعاني التي ذهبَ إليها المؤلف… لن نجدَ لغةً أخرى في العالم تمتازُ بهذهِ الميزة البتّة؛ فإحدى اللغات العريقة مثلاً التي تنتمي إلى اللغات السلافيّة المشتقة من أُسرة اللغات الهنديّة الأوربيّة، لا يزيدُ عمرها عن 400 سنة وقد يجدُ معظم الناطقين بها صعوباتٍ جَمّة في فهم نصٍ مكتوبٍ قبل 300 سنة، وشأن اللغةِ الإنكليزيّة لا يختلفُ كثيراً عن الفرنسية والروسية، فالإنكليزيّة القديمة التي كانت تكتب نحو 1000 ميلاديّة غير مفهومة اليوم، وتطوّرت هذهِ اللغة وأصبحت لغة أدبيّة كاملة خلال القرن الثالث عشر. ولا أريدُ الآن أن أتحدّثَ عن محاسنها ونقاط قوتّها؛ فقد فَعَلَ غيري ذلك… ولا أنطلق في كلامي عنّها من منطلق القداسة وغيرها كما يحاولُ البعض أن يفعل، لكنني أرى أنّ هذهِ اللغة هي ما بقيَ لدينا من حُطامِ أمّةٍ مُجزّأة مُتنافِرة الأجزاء، لغة فرضت نفسها، رغم ضعفِ أبنائها، على الأممِ المتحدة فأصبحت واحدة من ست لغاتٍ معتمدة عالميّاً، وظلت اللغة المرجعيّة لما لا يقل عن ملياري إنسانٍ في العالم واللغة الأم لنحوِ 300 مليون إنسان؛ أليسَ فاتناً بالله عليكم أن نقرأ اليوم، ما كتَبهُ شاعِرٌ اسمُهُ تأبطَّ شراً قبلَ نحو 1500 سنة، فلا يستعصي علينا من الأفكار شيء… ولا ترفض أفئدتنا مشاعِرَ الرجلِ الصعلوكِ الهاربِ من قومه، ونكتشفُ بعض عاداتنا، التي أخذناها عنه وعن أسلافه وما زالت حيّةً اليوم “كقرع السنِ من ندمٍ… أو سواه”:
يا عيدُ مالكَ من شوقٍ وإيراقِ ومَرِّ طيفٍ على الأهوالِ طَرّاقِ
يسري على الأينِ والحيّاتِ مُحتفياً نفسي فداؤكَ من سارٍ على ساقِ
لتقرعنَّ عليَّ السِنَّ من ندمٍ إذا تذكّرتِ يوماً بعض أخلاقي.
إضاءات – د. ثائر زين الدين