الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
لقد أدى الارتباط بين «الحزب» و»التحديث السياسي» في الدراسات السياسية إلى أن اعتنت أدبيات «التنمية السياسية» على وجه الخصوص، بالدور التحديثي للحزب السياسي. بل لقد نُظر إليه باعتباره من أكثر المؤسسات أهمية في هذا المضمار، أو أنه رمز «للتحديث السياسي» مثلما تمثل السدود والمصانع رموزاً للتحديث الاقتصادي، ووُضع الحزب، في هذا الإطار، مع مؤسسات وعناصر أخرى أنيطت بها مهام التحديث والتنمية السياسية، مثل القوات المسلحة والبيروقراطية والقيادة «الكاريزمية» أي القيادة التاريخية أو الملهمة.
وانطلاقاً من هذه الأهمية التي أحيط مفهوم الحزب السياسي بها، يأتي كتاب (نظرية الأحزاب… الأحزاب الأوروبية فوق القومية والبرلمان الأوروبي «معالم رؤية مستقبلية»)، تأليف: د. حسين طلال مقلد، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
يناقش هذا الكتاب عبر فصوله السبعة مسألة يعتقد الكاتب أنها على درجة عالية من الأهمية والخطورة، هي مسألة الحزب السياسي، بصفته فاعلاً اجتماعياً – سياسياً، وبنية مؤسسية ذات وظائف محددة وأهداف واضحة، يشارك بها الحزب، مشاركة إيجابية أو سلبية، في عمليات التشكل الاجتماعي، التي لا تتوقف، ولا تكتمل، ويحفز في القوى الحية، في بيئاته المحلية وفي المجتمع الكلي، قابليةَ «التحسن الذاتي»، التي يمتاز بها الإنسان من سائر الكائنات الحية. ومن هنا تتأتى أهميته وخطورته وضرورة البحث فيه على النحو الذي تُبحث به الظواهر الاجتماعية – السياسية، ببعديها الزماني والمكاني، التاريخي والكوني.
الأحزاب الأوروبية فوق القومية
استطاع الاتحاد الأوروبي، من خلال نظامه الديمقراطي التمثيلي ومؤسساته، التي تحتل الأحزاب السياسية موقعاً مهماً فيها أن يتحول إلى نظام سياسي أشبه بدولة قومية، كالولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من أنه يضم في عضويته 28 دولة قومية، وتديره ثلاث مؤسسات هي: المفوضية الأوروبية، ومجلس الاتحاد الأوروبي، والبرلمان الأوروبي.
وتقوم الأحزاب السياسية في توجيه دفة هذا الاتحاد وسياساته، وذلك بوضع أجندة سياسية معينة، والسعي إلى توفير الدعم الشعبي اللازم لهذه الأجندة. ففي قاعدة النظام السياسي للاتحاد الأوروبي هناك مطالب مواطني الاتحاد من مؤسساته، ويُعبّر عن هذه المطالب من خلال قنوات مختلفة، أهمها الأحزاب السياسية، التي علينا التمييز فيها هنا بين الأحزاب فوق القومية، والأحزاب القومية والاتحادات الحزبية.
فقد أشارت الأدبيات الحديثة حول صنع القرار التشريعي في الاتحاد الأوروبي إلى تأثير الأحزاب السياسية التي تؤدي دوراً مهماً في السلوك التصويتي والتنظيم التشريعي للبرلمان الأوروبي. حيث أشار الباحثون إلى تأثير هذه الأحزاب في تشكيل التحالفات داخل وعبر الأجهزة التشريعية وتركيبها، إذ يُلاحظ وجود شبكات تجمع بين الموظفين المسؤولين في المفوضية والمجلس، وجميعهم ينتمون إلى أحزاب فوق قومية، ويرتبطون بالمجموعات الحزبية في الاتحاد الأوروبي.
وتكون القيادة التشريعية في مجلس الاتحاد الأوروبي من خلال رئاسة المجلس الدورية، حيث تترأس المجلس دولة من الدول الأعضاء لفترة ستة أشهر، بينما تتم ممارسة القيادة التشريعية في المفوضية الأوروبية من خلال رئيس المفوضية الأوروبية. وعلى العكس من المفوضية والمجلس، فإن البرلمان الأوروبي يتمتع بالقيادة المؤلفة من مجموعات حزبية عابرة للقومية، ويعد مؤتمر رؤساء الكتل النيابية في البرلمان الأوروبي هو الجهاز المهم في قيادة البرلمان. ويسهم هذا الجهاز في العمل كمزود بالمعلومات المهمة، كما يسهم في تخفيض تكاليف التفاعلات من المساومات بين مختلف المجموعات في البرلمان الأوروبي.
وقد درس الباحثون العلاقة بين الحزب فوق القومي والحزب القومي وأعضاء البرلمان الأوروبي، وقدموا في هذا الصدد جملة من الأبحاث فـالباحث «سولي»، على سبيل المثال، يرى «إن تعليمات التصويت هي رابط قوي للأعضاء في البرلمان الذين على صلة مع قادة أحزابهم القومية. ويؤكد «هيكس»: «إن توجه الأحزاب نحو اليسار أو اليمين يؤثر على التصويت والانحياز الحزبي».
وعليه، وعلى الرغم من النقد المتكرر لافتقار المجموعات الحزبية في البرلمان الأوروبي إلى الانسجام، إلا أنها استطاعت إنجاز مستويات عالية ومرتفعة من الانسجام التصويتي. فقد أظهرت دراسات عن الفشل التصويتي في البرلمان الأوروبي أنه عندما يوجد صراع آراء بين ممثلي الحزب القومي والمجموعات الحزبية في البرلمان الأوروبي، فإن أعضاء البرلمان يتبعون توجهات أحزابهم القومية، وبهذا نصل إلى نتيجة مهمة مفادها أن نظام الانتخابات القومي يؤدي دوراً مهماً في الانتخابات الأوروبية.
صنع القرار في الاتحاد الأوروبي
ما يميز الاتحاد الأوروبي هو أن الحكومات ليس لديها السيطرة على المطالب السياسية: فهناك مجموعات معقدة ومتعددة: مجموعات المصالح والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وجميعها تتنافس على التأثير في مدخلات المؤسسات الاتحادية.
وعند البحث في تأثير الأحزاب في صنع السياسات التشريعية للاتحاد الأوروبي علينا التمييز بين التأثير في الانتخابات، والتأثير في المجال التشريعي، وهنا تبرز أهمية التركيز على مدى قدرة الأحزاب فوق القومية على تأسيس قيادة حزبية تسيطر على الأجندة التشريعية، ومدى إمكانية الأحزاب فوق القومية والقومية على التأثير في عملية صنع القرار. حيث يُتوقع أن تؤدي الأحزاب القومية دوراً مهماً في اختيار الممثلين، بالإضافة إلى تأثير القيادة الحزبية المركزية للأحزاب فوق القومية في وضع الأجندة التشريعية والرقابة عليها داخل البرلمان الأوروبي.
وفي هذا يرى الباحث «سولي» أن السياسيين الأوروبيين المشاركين في البرلمان الأوروبي لم يتحولوا بشكل فوري إلى داعمين للتكامل، بل ما زالوا إلى حد ما قوميين متمسكين بسلوكهم القومي. في حين يؤكد الباحث «ونكا» أن الحكومات تستخدم سلطتها للتعيين باختيار المفوضين من خلال الأحزاب التي ينتمون إليها.
وبالتالي تلعب الأحزاب القومية إذاً دوراً مهماً في اختيار ممثلي الاتحاد الموزعين على مؤسساته الثلاث: المفوضية، والمجلس، والبرلمان الأوروبي.
محددات عمل الأحزاب الأوروبية
كتبت الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف: «كان الاتحاد الأوروبي نموذجاً بديعاً لتحويل أعداء الأمس خصوماً سياسيين، وكان ذلك هو الجسر إلى تجاوز الخلاف الناجم عن الحرب العالمية الثانية». ويقال إن المشروع الأوروبي وثيق الصلة بالدفاع عن النظام النيوليبرالي، وهذا يجانب الصواب إلى حد ما، فالحاجة ماسة إلى تسييس أوروبا، أي تحويل مؤسساتها إلى مؤسسات تحتضن النزاعات، وبروز نقاش بين الأوروبيين على نوع أوروبا التي يشاؤونها والمؤسسات التي تليق بها.
الإجماع في السياسة محال، فالسياسة تعريفاً هي دائرة الخلاف أو التضاد والتنازع. وحري بالسياسات الديمقراطية إرساء مؤسسات تدور فيها نزاعات لا تذوب في قالب المواجهة بين أصدقاء وخصوم في آن، بل تقر بحق المختلفين في الرأي في الذود عن آرائهم. وإذا لم تشرع الأبواب أمام الخصام والخلاف، جُعلت المواجهة في صورة مواجهة بين قيم غير سياسية، أي أخلاقية تعلو على المساومة، أو في صورة خلاف إثني أو ديني. وهذه هي حال السياسة في أوروبا اليوم، فالخلاف لم يعد بين يمين ويسار، بل بين مخطئ ومصيب. والحاجة تبدو ماسة الآن إلى نقد يحمل المجتمعات الأوروبية إلى التزام المبادئ التي ترفع لواءها: الحرية والمساواة للجميع.
وقد أدت معاناة الاتحاد الأوروبي من كثير من المشكلات مثل مشكلة اللاجئين، والأزمة الاقتصادية وتعميم السياسات المخالفة لليبرالية، إلى نمو الأحزاب السياسية المشككة في اليورو، والتي طالبت في إعادة فرض السيادة الوطنية على كل من الحدود والأسواق. وباتت اليوم تجربة أوروبا التي استهدفت تأسيس سوق مشتركة، ثم تحولت بعد ذلك إلى الاتحاد الأوروبي، والتي كانت ملهمة لكثير من الدول، وسعت منظمات إقليمية عدة للاحتذاء بها، باتت تتعرض لاختبار فارق في مستقبلها، ليس فقط بسبب انسحاب بريطانيا من الاتحاد، وإنما لصعود اليمين الشعبوي كذلك الذي يعتبر أن فكرة أوروبا الموحدة (مستهلكة وعفا عليها الزمن).
التاريخ: الثلاثاء14-7-2020
رقم العدد :1005