الملحق الثقافي:علم الدين عبد اللطيف:
من المفيد استعراض التحول الذي طرأ على مفهوم اللغة بعد نشوء المدارس الألسنية، وتأسيس علم مستحدث للغة، هو بمثابة كشف عن دور، وفهم جديد للغة كنظام ومفهوم، وذلك في ضوء نظريات التحليل اللغوية والفكرية المختلفة، من المدرسة الكانطية، وحتى تفكيك رولان بارت. وإذا كان علماء اللغويات الأوائل قد درسوا اللغة من حيث علاقتها بأساسها الاجتماعي – نسق من الرموز – فإن الدارسين اللاحقين والحداثيين، يعتبرون اللغة نتاج لمجتمعها، واستعانوا بالقواعد التي تتحقق بها اللغة المنطوقة، ليصلوا إلى أصل العادات والشعائر والإيماءات، وأصل كل الظواهر الثقافية التي يتضمنها إبداع اللغة نفسه.
فما هي اللغة؟ وما هي أهم المراحل التي شهدها تطور علم اللغويات الحديثة ؟ وكيف تمت إعادة النظر بالمفاهيم القديمة المتعلقة باللغة؟ ولماذا؟
لم نعتد إيلاء الاهتمام لكلامنا كثيراً عندما نتكلم عن الأشياء المختلفة، ونركز اهتمامنا عادة على المواضيع التي نتكلم عنها، وهي في حقيقة الأمر محل الدلالة وليست الدلالة ذاتها.. هي مدلول عليه بكلامنا، وكلامنا هو الدال، أي الطرف الأول في مسألة فهم اللغة، من حيث هي علاقة غير منفصمة بين دال ومدلول، مهمتها التأسيس لوجود الأشياء باللغة، وليس بواسطتها أو عبرها. وهذا الفهم الجديد لمفهوم اللغة والكلام، مر بمراحل مختلفة، مرافقاً لتطور الفكر والفلسفة في أوروبا خاصة، من حيث أن المذاهب الفلسفية هي متغيرات ثقافية، أدت إلى تغيرات مقابلة في نظرة الإنسان إلى لغة التعبير واستخدامه لها، مما أتاح نشوء نظريات علم اللغة والمدارس الألسنية الحديثة. بحيث أصبح مصطلح «سجن اللغة» شائعاً كثيراً في الأوساط الفكرية والفلسفية.
فما هو سجن اللغة؟ وكيف تكون اللغة سجناً؟ ولأي شيء؟
لقد كان فريدريك جيمسون، أول من تكلم عن سجن اللغة، «سجن اللغة – 1972-» أي أن اللغة هي سجن العقل، ولم يكن جيمسون مخترعاً أو مكتشفاً، ولم يأت بهذا المفهوم من الفراغ، بل كان تطويراً لمفهوم سابق، ابتدأ مع نقاد الكانطية المثالية، الذين قالوا إن العقل أصبح سجناً للمعرفة بموجب مثالية كانط، وكانط الذي قال بسجن العقل، كانت المعرفة عنده غير ممكنة من دون العقل، لأن المعرفة خارج العقل، تكويناً أزلياً موجوداً قبل وجوده، حيث يولد الإنسان وعقله لوح خال، فكيف يمكن إدراك ما يقع خارج عقلنا؟
وهكذا فإننا، وفق كانط، نكون حبيسي عقولنا وحواسنا، وعاجزين عن إدراك ما يقع خارج حدود العقل. وقد سار نقاد الكانطية في هذا السياق، لكنهم طوروا المفهوم ذاته، فقالوا إن العقل هو في الحقيقة سجن المعرفة، في رد فلسفي على مثالية كانط، التي هي غير قادرة على إدراك المعرفة وفق مثاليتها ذاتها، وبدأ الشك عندهم في قدرة العقل الكانطي على إدراك المعرفة الكاملة أو اليقينية، وقالوا إن العقل هو سجن المعرفة، أي أن المعرفة موجودة بالأصل في العقل، داخله وليس خارجه، وبهذا يصبح بالإمكان الوصول إلى الحقائق، لأنها ببساطة موجودة داخل عقولنا، لم تتكون قبلها، ولن يكون لها وجود بعدها، أي تدور معها وجوداً وعدماً.
وكان من الممكن أن تنسحب صورة السجن من العقل لتلتحق باللغة، مع التحول الجديد والكبير في العلوم والمناهج التجريبية، التي طورت علم اللغويات، وارتبط العقل بالتجريب وخضع له، وأصبح التفكير أداة من أدوات العقل.
وإذا كان الأمر كذلك وفق مفهوم سجن اللغة، فإن بناء اللغة هو الذي يحدد معرفتنا بالعالم، إذ ليس بالإمكان الانتقال من اللغة إلى الواقع في حد ذاته، لأنه ببساطة غير موجود إلا في اللغة، مما يعني تحول اللغة إلى سجن يحل محل سجن العقل.
لقد أقام عالم اللغويات السويسري «فرديناند دي سوسير» علاقة وثيقة ومباشرة بين اللغة وعلم الإشارات «السيميولوجيا» فقال:
-إن اللغة هي نظام علامات تعبر عن أفكار، لذلك فهي تقارن بكتابة، أو أبجدية الصم والبكم، والطقوس الرمزية، والإشارات العسكرية والصيغ السياسية، بيد أنها أعظم من كل هذه الأنظمة.
قال سوسير بالإشارة اللغوية إذن، واللغة حسب مفهومه مجموعة من الإشارات يرتبط بعضها ببعض بواسطة علاقات محددة أصلاً، هي:
-علاقة التوليد: حيث يولّد نظام نظاماً آخر، فاللغة العادية تولد الاستنباط. والكتابة العادية كتابة بريل، حيث يبنى النظام الثاني انطلاقاً من النظام الأول، وبحيث تكون العلاقة توليدية بالفعل وليست اشتقاقية تفترض وجود تطور وتغير تاريخي.
-علاقة التماثل: وهذه لا تستفاد من النظام نفسه، بل من بعض الصلات المشتركة بين نظامين متغايرين. يقول بودلير: «إن الروائح والألوان والأصوات تتجاوب».
-علاقة التفسير: وذلك بين نظام مفسر، وآخر مفسر، وهي علاقة محورية بالنسبة إلى اللغة، يمكن تحليلها إلى مستويين. مستوى الوحدات الدالة (المونيم) ومستوى الوحدات غير الدالة (الفونيم). وهكذا وفق هذه الأنظمة، أصبحت اللغة هي المفسر الوحيد لجميع الأنظمة السيميوطيقية.
أما رولان بارت، فقد أراد أن يصوغ تصوراً شاملاً للتجربة اللغوية في كتابه «سيميولوجيا النقد الأدبي»، وذلك بتفسير كل علامة ترتبط باللغة المنطوقة والمكتوبة، فوضع كل كاتب في لغته/ بيئته الاجتماعية/ لتفسير الاختيار الاتفاقي للكلمات.
إن التحول الجذري الذي طرأ على نظرتنا إلى اللغة، هو التحول من نظرة ترى اللغة وعاءً، أو أداة شفافة، يمكن بواسطتها تصوير أو تمثيل شيء في العالم الخارجي – لنتذكر كانط – أو حتى مفهوم عقلي ولدته تجربتنا الحسية للعالم الخارجي، إلى نظرة تضع حداً للثنائيات القائمة على الحضور المتزامن للداخل والخارج في اللغة، نظرة تعترف بوجود الداخل فقط، على أساس أن اللغة ليست تمثيلاً شفافاً للمعنى الخارجي، لأن فكرة الاستخدام الحرفي، أو المرجعي للغة هو وهم يرجع إلى أننا ننسى الجذور المجازية للغة حسب بارت.
إن العصر الكلاسيكي للفلسفة الغربية – حتى نهاية القرن الثامن عشر – أكد على المفهوم التمثيلي للغة، لأن المعرفة الإنسانية، وحدود العقل البشري، كان يحددهما نظام مرتب ومنظم للمعرفة، وكانت المعرفة في التعريف هي مجموع الملاحظات والانطباعات الحسية التي يتم تقسيمها وتبويبها عن طريق اللغة، كنسق مرجعي ترتبط بعمليات المنطق، والانسحاب الحقيقي للغة كوسيط تمثيلي يبدأ مع نهاية العصر الكلاسيكي (بداية الانسحاب إلى الداخل) إلى داخل العقل، وحينما ينسحب مركز المعرفة، تنسحب معه اللغة إلى داخل العقل، لتبدأ عمليات الدلالة المغلقة داخل الأنساق اللغوية المستقلة عن الخارج، وتصبح اللغة عبارة عن دالات ومدلولات تكوّن المفاهيم داخل العقل، وليست مجرد تكوينات مادية خارجه.
إن الاهتمام باللغة كظاهرة اجتماعية ونفسية، لا يمكن فصله عن تطورات الفلسفة الغربية منذ أرسطو وانتهاءً بالظاهراتية والهرمينوطيقية، وكان الفكر اللغوي يتأثر دائماً بالتحولات المعرفية الجوهرية التي حفل بها تاريخ الفلسفة الغربية، منذ القرن السابع عشر حتى الآن. فحتى القرن السادس عشر كانت العلاقة بين الكلمة والشيء الذي تشير إليه، أو بين الدال والمدلول، علاقة تشابه، وكان يصعب تأكيد المعرفة من دون رابطة حقيقية بين طرفي العلامة، ومع التحول المعرفي التالي الذي امتد طوال العصر الكلاسيكي للفلسفة الغربية – السابع عشر والثامن عشر – تحول التشابه المفترض بين الدال والمدلول، إلى التصوير والتمثيل، وهو درجة متطورة في العلاقة بين طرفي العلامة، وأصبحت عملية الدلالة يحكمها التكافؤ بين الدال والمدلول. وفي نهاية القرن الثامن عشر، فتح الباب أمام الاستخدامات البلاغية والرمزية للغة غير طبيعية، قائمة على الدلالة المباشرة والصريحة، ولم تعد اللغة مجموعة من الرموز أو الدالات التقليدية التي تمارس معها آليات المنطق الأرسطي عملها لتحديد الواقع والدلالة عليه عن طريق قنوات الحواس، وبذلك تم التأسيس لمفهوم اللغة كنظام له وحدته وتماسكه الخاصان به، ويختلف جوهرياً عن المفهوم الاستخدامي للغة.
إن الشكلانيين الروس هم أول من بدأ التحرك باتجاه التعامل مع اللغة كنظام، وكانت اللغة نقطة انطلاقهم في تأسيس علم الأدب، والانتقال من النظام اللغوي إلى النظام الأدبي، وهو تطبيق مبكر لأفكار سوسير حول الفارق بين اللغة والكلام، من حيث أن اللغة هي مجموعة القواعد المتفق عليها والتي تحتم استخدامها، بينما الكلام هو تجسيد هذه القواعد في موقف بعينه، أي أن اللغة هي النظام الكلي الذي يحكم العلاقات بين البنى الصغرى في الاستخدام العادي لها.
سوسير يضع العلامة وسط النسق اللغوي، فالعلامة في رأيه لا توجد خارج النسق اللغوي، والنسق اللغوي نسق اختلافات بالدرجة الأولى، والحديث عن العلامة بشقيها – الدال والمدلول – ووجودها فقط داخل النسق، وليس خارجه أو قبله. يقول: «سواء أخذنا الدال أو المدلول، فإن اللغة ليس لها أفكار أو أصوات سابقة على النسق اللغوي، بل اختلافات فكرية وصوتية تنشأ في النسق. إن النسق هو الذي يوفر إمكانية العلامة، إن هناك نسقاً وراء استخدامنا للغة، نسق الثنائيات المتضادة، فعلى مستوى الفونيم تشمل الأنفي والصائت، المجهور وغير المجهور، المتوتر واللين».
يقول نيتشه: «لغة الفرد هي التي تحدد معرفته بالعالم، والمعرفة الوحيدة هي التي تأتي عن طريق اللغة». ويقف فوكو نفس الموقف: «الحقيقة لا وجود لها، واللغة فقط هي الموجودة». وبذلك ينفي الازدواجية التي يسبق فيها وجود الأشياء في العالم الخارجي وجود اللغة، بحيث تكون اللغة وفق ذلك الفهم أوعية شفافة تدل مباشرة على الأشياء. اللغة أصبحت أداة معرفتنا بالحقائق الخارجية. واللغة إذن هي الحقيقة، لنلاحظ مثلاً أن هندسة الطبيعة، المتمثلة بالمخمسات والمسدسات في الأزهار أو بلورات الثلج، أو الألوان المتناسقة شديدة الانسجام في النباتات أو الكائنات الحية، أو حتى صوت الموسيقى.. كل هذه الأشياء لا وجود لها خارج لغة الإنسان.. هي غير موجودة بالقطع بالنسبة إلى الكائنات الأخرى، لغة الهندسة واللون والصوت موجودة فقط في العقل البشري، وليس خارجه في الطبيعة أو غيرها. وهذا بالأصل ما مهد الطريق للتفسير الماركسي لوظيفة اللغة وقدرتها على الدلالة، حيث يؤكد الماركسيون على القيمة التاريخية للدوال التي تعطيها دلالات تراكمية تحددها الظروف التاريخية – الاقتصادية والاجتماعية – لمستخدمي تلك اللغة، باعتبار أن وعي الفرد هو الذي يشكل لغته.
أما سارتر فيعلن: «اللغة والثقافة لا توجدان داخل الفرد، بل الفرد هو الذي يوجد داخل ثقافته ولغته». في حين يقول هيدغر: «اللغة هي بيت الوجود، فيها يقيم الإنسان. وهؤلاء الذين يفكرون بالكلمات، هم حراس ذلك البيت، وحراستهم تحقق الكشف عن الوجود. واللغة ليست مادة خاماً جاهزة للاستخدام أو المعالجة. الشعر مثلاً هو الذي يجعل اللغة ممكنة، من حيث هو اللغة البدائية لأناس سابقين. إن الوجود يكتشف من خلال اللغة فقط، ويبدأ لحظة كشف اللغة عنه، وإن ما تقوم اللغة بتسميته هنا ليس شيئاً موجوداً مسبقاً، لكنه يجيء إلى الوجود في نفس لحظة هذه التسمية أو هذا الإنشاء».
إن الثالوث الذي يمحور فلسفة هيدغر هو – اللغة – الشعر – الوجود -… ويقدم اللغة باعتبارها السجن الأبدي للإنسان، ولا يوجد شيء خارج اللغة. فالإنسان حبيس سجن اللغة. وبالتالي أصبحت اللغة تتكلم عنا، أو من خلالنا.
في ظل هذه التفسيرات الجديدة لمفهوم اللغة ووظيفتها، أصبحت اللغة تسحب من العقل صفاته. وأصبحت للغة مكانة جديدة، على أساسها يمكن فهم العالم والأشياء بشكل مختلف. وبرزت تساؤلات جديدة ومستحدثة لم يكن بالإمكان إثارتها سابقاً، حول ما الذي يسبق الآخر الكينونة أم اللغة؟ وهل نولد في الكينونة أم في اللغة؟ وهل تسبق الكتابة الوجود أم العكس؟ ويخلص هيدغر إلى القول: «إن اللغة تكشف عن الكينونة التي تحتاج إلى اللغة التي تعبر عنها، بسبب افتقادها للوجود المادي المحسوس من دون اللغة. إذن لا يستطيع الإنسان إدراك الكينونة».
وهكذا ننتهي معه إلى القول بأن معرفتنا للعالم تتشكل في اللغة. بل إن العالم في الواقع هو اللغة. وإن الأصوات والألفاظ والكلمات، هي التي تحقق وجود الأشياء، وتحدد قيمتها. ولو كان العكس صحيحاً، أي لو كانت الأشياء موجودة – سابقة الوجود – أي خارج اللغة، لكان من المحتم أن تتشابه الأصوات والألفاظ والكلمات المستخدمة في اللغات المختلفة للدلالة على الأشياء نفسها، لكن الأشياء توجد، أو ندرك وجودها حينما يقوم العرف أو الاصطلاح بتثبيت العلاقة الاعتباطية بين العلامة اللغوية، والشيء الذي يشير إليه، ومن هنا اختلاف (صوت) /dog/ في الإنكليزية عن /chien/ في الفرنسية و/كلب/ في العربية. بل إن سوسير يذهب لا إلى إنكار الوجود السابق للأشياء قبل إدراك ذلك الوجود في اللغة فقط، بل إلى إنكار وجود الفكر ذاته خارج اللغة (ليس للأفكار وجود سابق، كما أنه ليس هناك شيْ واضح قبل ظهور اللغة). وبذلك يكون قد أكمل الانقلاب ضد التفسيرات التقليدية عن شفافية اللغة التي سادت الفكر الأوروبي حتى بداية العصر الحديث للفلسفة في القرن السابع عشر.
وقد ساير الدارسون اللغويون العرب هذا الاتجاه، في محاولة لتمثل التطور الحاصل لمفهوم اللغة. يقول عز الدين إسماعيل: «إن إنكار الوجود المسبق للأفكار قبل التعبير عنها باللغة ينفي أسبقية الفكر على اللغة من جهة، ودخول أي صوت في منطقة الوضوح قبل اقترانه بالفكر في اللغة من جهة أخرى». فالصوت حسب سوسير لا يقل إبهاماً عن التفكير في هذه الحالة، والدور المميز للغة فيما يتعلق بالتفكير، ليس خلق وسائل صوتية مادية للتعبير عن الأفكار، ولكن الربط بين الفكر والصوت، وبهذا لا تمنح الأفكار شكلاً مادياً، كما أن الأفكار لا تتحول إلى كينونات عقلية، بل يتحد الفكر بالمادة الصوتية ويتثبت بالصوت، ويصبح الصوت علامة على الفكرة، وبذلك يترابطان، وارتباطهما ينتج صيغة لا مادة.
والدارس العربي الآخر هو د. عبد العزيز حمودة الذي يحيل إلى فهم معتدل أو منطقة وسط في هذا الصدد يقول: «قد يقبل البعض منا المقولة السوسيرية في صورتها الأولى، وفي صورها المطورة المبالغ فيها حول أن اللغة سابقة للوجود. وقد يرفضها البعض. ويحاول البعض الآخر إيجاد منطقة وسط يلتقي عندها الطرفان، لكن الموقف الذي يصعب الاختلاف عليه هو التوحد الكامل للفظ والمعنى، وهو توحد يصعب الفصل على أساسه بين طرفي العلامة اللغوية، وتأكد هذا في اللغويات الحديثة منذ بداية القرن العشرين بعد أن انتهى علم اللغويات إلى مبدأين أصبحا من قبيل المسلمات، أولاً رفض شفافية اللغة كمفهوم تقليدي قائم على أساس وجود الأشياء خارج اللغة، ويعبر عنها بأصوات أو ألفاظ، كأن اللغة مجرد وعاء شفاف يظهر الأشياء أو المواد بداخله، شفافية اللغة بهذا المعنى تعني وجود الشيء وممثله اللغوي منفصلين، أما اليوم وبعد أربعة قرون من تطور الفكر الفلسفي واللغوي الأوروبي، فلم تعد اللغة تمثل الأشياء ذاتها، بل مفاهيم الأشياء، وطورت أيضاً الدراسات اللغوية الحديثة ابتداءً من سوسير، مقولة مغايرة تماماً للمفهوم التقليدي السابق عن تمثيل اللغة للأشياء، مؤداها أن الوجود لا يدرك إلا في اللغة، ومن ثم فهو ليس سابقاً على وجود اللغة. وثانياً القول باعتباطية العلاقة بين اللفظ والمعنى – الدال والمدلول – وهي علاقة يقيمها العرف الاجتماعي أولاً ثم يثبتها تالياً. ومن ثم لا يصبح بإمكان مرسل واحد للعلامة اللغوية، أو مستقبل واحد لها أن يتفقا على فصم العلاقة أو تغييرها بعيداً عن عرف الجماعة».
أخيراً قد يكون من المفيد والمثير في آن، ذكر قول لابن طباطبا المؤرخ والمفكر العربي، قاله منذ أكثر من عشرة قرون: «الكلام الذي لا معنى له، كالجسد الذي لا روح فيه. للكلام جسد وروح، جسده النطق، وروحه معناه».
التاريخ: الثلاثاء21-7-2020
رقم العدد :1006